مفهوم القضاء والقدر

الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا  وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين» 

يعتبر موضوع القضاء والقدر من المواضيع المهمة المتعلقة بحياة الإنسان. إن الإيمان بالقضاء والقدر هو من صميم عقيدتنا الإسلاميَّة. لكن ما هو مفهوم القضاء والقدر؟ وهل الإنسان مُخيّر أم مُسيّر؟ من التعاريف التي عُرف به القضاء هو: “إرادة الله الأشياء في الأزل على ما هي عليه فيما يزال”. كشروق الشمس وغروبها، وولادة الإنسان وموته. قال الله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ» ال عمران: 185. أي أن الله عز وجل قضى في الأزل أن كل انسان مصيره بعد ولادته وحياته في هذه الدنيا الموت، بمعنى أن القضاء ما يقضيه الله تبارك وتعالى ولا تأثير للإنسان فيه. يؤكد القرآن الكريم على محدودية عمر الإنسان. قال الله تعالى: «وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ » النحل: 61. وأما من تعاريف القدر هو  “إيجاد الأشياء على قدر مخصوص ووجه معين أراده الله تعالى”. إذا كانت الحياة والممات من قضاء الله تعالى، فكيفية وقوع الموت، هي القدر الذي قد يكون للإنسان تأثير في وقوعه، لأن القدر يتعلق بالسبب والنتيجة. خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان والعالم والمخلوقات الأخرى وفقًا لسنن وقوانين معينة. فكل انسان يموت بسبب معين، فمنه من يموت بسبب الغرق، والآخر بسبب حادثة سير، والثالث بسبب مرض معين.

لا تأثير للإنسان في صيرورة القضاء، كولادته رضيعا، ثم يكبر، فيصبح شابا يافعا، ثم شيخا هرما، ثم ينقضي أجله. وأما القدر فهو متصل بأفعال الإنسان وإرادته. إن الله عز وجل بإرادته متعنا بملكة الإرادة والقدرة على فعل الشيء أو تركه. بمعنى أن كل واحد منا في هذا المسجد جاء بمحض إرادته التي متعه الله بها لأداء صلاة الجمعة، ولم يجبره أحد على ذلك. وهذا هو معنى قوله تعالى: «وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا » الإنسان:30. فالدارس لواقعنا الإجتماعي يتبين له أن تعاملنا مع القضاء والقدر في حياتنا اليومية تعاملا سطحيا. فكثيرا ما نبعد المسؤولية عن أنفسنا، ونلقيها على القضاء والقدر. نسمع أحدنا يقول هذا مصيرقدرك المحتوم، وكل ما يصيبنا هو من الله. كلام ظاهره صحيح، ولكن في محتواه يحمل جوهر عقيدة الجبرية، التي تقول إن الإنسان مسير ومجبر وليس مخير.

إن إرادة الله الأزلية منحت لنا ملكة الإرادة و ملكة القدرة لنختار نوعية الحياة التي نريدها. ووهب لنا سبحانه وتعالى ملكة التفكير وقدرة التمييز لكي نختار حياة مبنية على الوقاية والسلامة أو حياة مبنية على المخاطرة. ومنح لنا ملكة القوة والقدرة لكي نسعى في كسب رزقنا، أو ننجذب الى الكسل والخمول فيقمعنا الفقر والذل. فإرادة الله عز وجل منحت لنا ملكة حرية الإختيار في فعل الخير أو الشر أو فعل الطاعة أو المعصية. إن الله عز وجل ييسر للإنسان ما يريد فعله وتحقيقه. قال الله تعالى: « إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ. فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى. وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى. وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى» الليل: 5 ـ 10. من قضاء الله عز وجل جعل نفس الإنسان قابلة لفعل الخير أو الشر. قال الله تعالى: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا» الشمس: 7 ـ 8. ومتع سبحانه الإنسان بملكة القدرة لتزكية نفسه بفعل الفضائل أو تدنيسها بفعل الرذائل. قال الله تعالى:  «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا» الشمس: 9 ـ 10. كل هذا داخل في مفهوم القدر.

يسأل أحدنا لماذا يولد بعض الأطفال بأمراض خطيرة، وتشوهات خلقية؟ هل هذا من قضاء الله عز وجل؟ الحقيقة التي سطرها القرآن الكريم أن من قضاء الله عز وجل خَلْقه الإنسان في أحسن تقويم وفي أحسن صورة. قال الله تعالى: « لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلْإِنسَٰنَ فِىٓ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍۢ » التين: 4. لكن القدر الذي للإنسان تأثير فيه قد يجعل المولود يولد بتشوهات عضوية وخِلقية. إن نوعية الحياة التي نعيشها؛ الطعام الذي نأكله، والشراب الذي نشربه، والتدخين الذي نتدخنه، والأشعة التي نتعرض لها، والأدوية التي نتناولها، والصراع الذي نعيشه في أسرنا ومجتمعنا، كل ذلك قد يكون له تأثير كبير على سلامة صحة الجنين الموجود في رحم امه. لو أننا معاشر الرجال نعلم مدى ارتباط صحة الجنين بحالة نفسية الزوجة الحامل، لكنا نحمل زوجاتنا أثناء الحمل على ظهورنا حتى لا يتأذى طفلنا.

إذا نظرنا إلى الأحداث الطبيعية مثل تجمد الماء وغليانه، عرفنا بسبب العادة أن الماء يتجمد بسبب شدة البرودة، ويغلي بسبب ارتفاع درجة الحرارة. كذلك كل ما يصيبنا من عز وذل، ورخاء وفقر، وصحة ومرض، وسعادة وحزن لها اسبابها التي تستدعي هذه النتائج، فهذه النتائج أقدار نصنعها بأنفسنا. فهي تنسب الى الله عز وجل من باب نسبة الجزء إلى الكل. إن أسباب الوقائع الإجتماعية متشابكة، ويصعب في كثير من الأحيان معرفة سرها. لكن الذي يجب أن نتسلح به هو كيف نأخذ بالأسباب التي تحقق لنا حياة سليمة من الأمراض، سليمة من الأحقاد، وسليمة من المشاكل الإجتماعية. في هذا السياق قال سيدنا محمد ﷺ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَىْءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ، وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ، تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ ‏» مسلم.

مقالات ذات صله

تريد البقاء على اطلاع حول أحدث مقالاتي؟

اشترك هنا في النشرة الإخبارية الشهرية