مفهوم السببية في القرآن

الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا  وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»  

صحة الفهم يساعد الإنسان على بناء ذاته وتطور مستقبله، حيث يترتب عليه صحة الإعتقاد، وصحة العمل، واطمئنان النفس. ينور صحة الفهم بصيرة الإنسان، ويعينه على التمييز بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال. على أساس صحة الفهم، ووضوح الفكرة يتضح السبيل الذي يوصلنا إلى الله تعالى، وبهما تصبح الحياة أكثر سهولة، حيث إن اضطراب الفهم له انعكاسات سلبية على حياة الإنسان. ومن الفهم الذي أصابه إضطراب هو مفهوم السببية الذي يبحث في علاقة النتائج بأسبابها، والذي ينتظم به السنن الكونية والإجتماعية،. يرتبط مفهوم السببية بقضيتين مهمتين: الأولى في فهم العقيدة الإسلامية، كمسألة خلق أفعال الإنسان، ومفهوم القضاء والقدر، ومفهوم الإرادة، والثاني في استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية. يؤكد القرآن الكريم على أن المكونات مرتبطة فيما بينها، فلا يوجد الشيء إلا بوجود سببه، حتى العلاقات الإجتماعية، والظواهر الكونية. وإن الحياة النباتية هي أيضا مرتبطة بعلاقة سببية مؤثرة. تتكون السبية من السبب والمُسَبِب والمُسَبَب. عرف الإمام الزركشي السبب بأنه عبارة عما يحصل الحكم عنده لا به، أي لأنه ليس بمؤثر في الوجود، بل وسيلة إليه. فالحبل مثلا يتوصل به إلى إخراج الماء من البئر، وليس المؤثر في الإخراج، وإنما المؤثر حركة المستقي للماء. فمن أمثلة السببية في الطبيعة قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ «الأعراف: 57. تبين هذه الآية أن الرياح تهب وفق أسباب كونية، وتجعل السحاب ركاما وقطعا بيضاء وسوداء، ثم تحمله وفق أسباب كونية إلى بلد معين، وأن نزول الماء يتم حسب سنن إلاهية في الكون، وأن خروج النبات من الأرض كان بسبب الماء النازل من السحاب الذي هو أيضا من سنن الله الكونية، وأن المؤثر الخفي وراء هذه الأسباب كلها هو الله تعالى. إن السنن الكونية هي سنن إلهية، وهي طريقته في تدبير وتسير شؤون الكون، وأحوال الحياة. فسنن الله تعالى مطردة، لا تتبدل ولا تتغير. «فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا»فاطر: 43. إن التصور القرآني ينفي العفوية والصدفة في كل ما يجري في الكون، ابتداء من نشأته إلى كل حركة فيه. وإن التصور الإسلامي ينفي الحتمية والجبرية. والجبرية مذهب يرى أن كل ما يحدث للإنسان قد قدر عليه أزلا، لا قدرة له على اختيار أعماله، فهو مسير لا مخير. إن الآيات القرآنية تصرح باختيارية الإنسان وأنه فاعل مختار مسؤول عن عمله. قال الله تعالى: «إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا» اإنسان: 3. ومن الأمثلة التي تؤكد على أن الأحوال الإنسانية هي الأخرى مرتبطة بأسبابها أمر الله تعالى لمريم عليها السلام أن تهز بجذع النخلة ليتساقط عليها الرطب. قال الله تعالى: «وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا «مريم: 25. فتحريك جذع النخلة يعد باب من أبواب الأخذ بالأسباب، وأن الأسباب متعلقة بتوفر الشروط المؤثرة في المسبب. ومن أمثلة السببية في التوكل على الله: «قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟ قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ» الترميذي.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما  بعد:

معشر الإخوة والأخوات:

ومن امثلة السببية في الطب، قوله صلى الله عليه وسلم:» لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»  مسلم. تأمل قوله صلى الله عليه وسلم: «اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ»، وقوله « فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ»، تجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع بين السبب المادي الظاهر  وبين المؤثر الخفي في السبب. إن المتأمل في كتاب الله تعالى يجد أن الأسباب لاتؤثر بنفسها استقلالا، وأن الإنسان لا يستطيع أن يفعل شيئا بقدرته دون قدرة الله الخافية، ومشيئته الراعية. إن الله تعالى هو المتحكم في الأسباب، القائم بأمر الكون، المدبر لشؤونه. قال الله تعالى: «أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ! ءَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ! لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ! إِنَّا لَمُغْرَمُونَ! بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ! أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ! ءَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ! لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ» الواقعة: 63-70. تؤكد الآيات على مبدأ السببيَّة، والأخذ بالأسباب، وأن هنالك فعلين: فعل من الله يخلق فيه الأسباب، وفعل من الإنسان للأخذ بهذه الأسباب التي خلقها الله تعالى. جعل الله الأسباب للإنسان واسطة للوصول إلى مقصوده. ومن الأمثلة التي تؤكد على أن السببية خاضعة للمشيئة الإلاهية. قال الله تعالى: «فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ» البقرة: 102. يؤكد القرآن الكريم على أن الله عز وجل قد تكفل برزق مخلوقاته، قال تعالى: «وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا» هود: 6. إلا أنه سبحانه وتعالى حث عباده على الأخذ بالأسباب في الحصول على الرزق، فلا يخلوا حال الإنسان من السعي في كسب الرزق. قال تعالى: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» الملك: 15.

المراجع:

  • مفهوم السببيَّة في الفيزياء المعاصرة وعند المتكلمين المسلمين د. محمد باسل الطائي، ودة. آمال رضا ملكاوي، و أ.د. محمد سعيد الصباريني
  • تهافت الفلاسفة للإمام أبو حامد الغزالي
  • صحيح مسلم
  • سنن الترمذي

مقالات ذات صله

تريد البقاء على اطلاع حول أحدث مقالاتي؟

اشترك هنا في النشرة الإخبارية الشهرية