قصة ولادة سيدنا عيسى عليه السلام

الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا  وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين» 

نتوقّف اليوم قليلاً أمام  إحدى القصص التي تحدث عنها القرآن الكريم بالتفصيل والبيان. إنها ولادة سيدنا عيسى عليه السلام. اتسمت أسرة آل عمران بالصلاح والتقوى. من شدة إخلاص أم مريم لله تعالى أنها نذرت الجنين الذي في رحمها لأجل خدمة بيت المقدس. فلما وُلِدت مريم عليها السلام أُصِيبَت أمها بخيبة أمل، حيث كانت تأمل أن يكون مولودها ذكرا، حتى تتمكن من الوفاء بنذرها. لكن الله عز وجل تقبل المولودة بقبول حسن، وأنبتها نباتا حسنا. فنشأت مريم عليها السلام مكرمة في رعاية نبي الله زكريا عليه السلام راعيا لها، وقائما على مصالحها. أصبح لمريم محرابا تنعزل فيه عمّن حولها لعبادة الله تعالى. كانت عليها السلام صاحبة خير ورزق وفير. حيث كان زكريا عليه السلام يدخل عليها المحراب، فيجد بين يديها طعاما لم يقدَّمه لها من بيته، ولا يعلم مصدره. » كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ « ال عمران: 37. كانت مريم عليها السلام تقضي أيامها في جو من الإيمان والذكر لله تعالى، فاصطفاها الله على نساء العالمين لتكون الأُم العفيفة الطاهرة التي تنجب طفلا بطريقة غير معهودة. «وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ» آل عمران: 42. ذات يوم بينما هي في عزلتها عن الناس، بعث الله تعالى إليها جبريل عليه السلام في صورة رجل ليبشرها بمولود. لما رأت مريم عليها السلام الرجل ـ جبريل ـ قادم إليها، أصابها الفزع، وظنت أنه يريد منها سوءا، فـ «قالَت إِنّي أَعوذُ بِالرَّحمنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا » مريم: 18. فاندهشت عليها السلام، ووقفت مذهولة من رده الذي لم تتوقعه أبدا، «قالَ إِنَّما أَنا رَسولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا» مريم: .19 فوجئت مريم عليها السلام من قوله أنه مبعوث إليها من قبل الله تعالى، وزادت دهشتها حين بشرها بولد ذي شأن عظيم. وقفت مريم عليها السلام أمام هذا الواقع المفاجئ مندهشة، ومتعجبة، ومتسائلة كيف يحصل هذا؟ هل هذا حلم أم هو واقع ملموس؟ توجهت مريم عليها السلام إلى بارئها وخالقها: «قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ» آل عمران: 47. تكشف الآية الكريم الإنفعال الذي قد يصيب أي فتاة حريصة على كرامتها وشرف أهلها. عندما سمعت كلام رسول ربها، توجهت إلى الله تعالى سائلة، كيف يحصل الحمل من دون الخضوع لقانون التوالد، وهي ليس لها أي علاقة بأي رجل، لا بالطريقة الشرعية ولا بغيرها. دون تأخر يأتيها الجواب من الله تعالى: « قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ » آل عمران:47. إن قدرة الله تعالى لا يعجزها أن تخلق ولدا بدون أب، وبطريقة مغايرة للطريقة التي تعهدها الناس، فالله تعالى قد خلق آدم من تراب، من دون أب ولا أم. «إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ» ال عمران: 59. لما بدأت مريم تشعر بأعراض الحمل، بدأت تفكر في حجم ردة الفعل الإجتماعية. أول خطوة قامت بها لحماية نفسها من الرفض الإجتماعي، قصدت مكانا نائيا على مشارف العمران. ابتعدت مريم عليها السلام عن أنظار الناس وهي في حاجة ماسة إليهم لتخفيف آلامها الجسدية والنفسية. وهذا ما أخبرنا به القرآن الكريم: «فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا » مريم: 22. إضطر ألم المخاض  مريم عليها السلام في ذلك المكان البعيد عن أهلها إلى نخلة. استندت مريم عليها السلام إلى جذع النخلة وحيدة لا ابتسامة أم تعطف عليها، ولا مولدة ماهرة تساعدها على الولادة. كانت عليها السلام تعاني من اضطراب في خواطرها. تعبر آيات القرآن الكريم عن حالة نفسيتها التي تظهر ما يتمخض في داخلها من انهيار عصبي، وتذمر من الوحدة، وتكدر مع الوجع. قال الله تعالى: «فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا» مريم: 23. في حدة الألم الجسدي والنفسي تقع المفاجأة، حيث أن رعاية الله تعالى لم تتخل لا عن مريم عليها السلام ولا عن مولودها. «فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا. وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا» مريم: 24 ـ 25. لاشك أنها عليها السلام اندهشت كثيرا، وتعجبت من صبي الذي ولد منذ اللحظة يواسيها، ويرشدها إلى طعامها وشرابها، ويُطَمئِن قلبها، ويدلها عن طريقة تحمي نفسها من القيل والقال. قال الله تعالى: «فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا» مريم: 26. 

مقالات ذات صله

تريد البقاء على اطلاع حول أحدث مقالاتي؟

اشترك هنا في النشرة الإخبارية الشهرية