قصة ولادة سيدنا عيسى عليه السلام (تابع)

الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا  وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين» 

لما وضعت مريم عليها السلام وليدها، اتجهت به إلى قومها وهي تحمله على ظهرها مطمئنة غير مبالية ولا مكترثة لردة فعلهم. رغم صعوبة الموقف الذي تواجهه، إلا أنها كانت متيقنة ببراءة نفسها، وموثوقة بعفتها. لقد أساء كثير من الناس من قومها الظن بها، واتهموها في شرفها شر تهمة، فاستقبلوها بألسنة تنطق بالتقريع والتأنيب. «قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا. يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا »مريم: 27. تدل هذه الواقعة أن الحياة تحتوي على مواقف صعبة التي قد تؤدي إلى إنهيار معنويات المرء، والشعور بالإحباط، أو قد تؤدي به إلى اكتشاف نقاط ضعفه و قوته. لذا نرى أن الله تعالى قد عزز من معنويات مريم الروحية، ورفع قدرها، وأنزلها مقاما محمودا. لقد منحها الله تعالى طاقة نفسية جعلتها قادرة على مواجهة الصعاب، والتغلب على المشكلات التي تحيط بها. بذلك جعلها سبحانه وتعالى تتحمل اساءة بعض الناس إلى كرامتها، وتنتصر على خلجات وهواجس نفسها، وتقف صامدة أمام أسئلة التوبيخ، والتقريع التي يطرحها عليها أفراد قومها. يسألونها على سبيل التوبيخ: كيف تفعلين هذه الفعلة الشنيعة، وكيف تحيدين عن استقامة أبيك وعفة أمك. لكن مريم عليها السلام قابلت تهمتهم وتأنيبهم بالسكينة والوقار، رغم شدة الضغوط التي مورست عليها، إلا أنها لم تفقد هدوءها ولا توازنها. لم تجب عن افترائتهم، ولم ترد على ادعائتهم، بل قالت لهم بكل ثقة وثبات:«إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا» مريم: 26.

لكن أفرادا من قومها ألحوا عليها إلحاحا عظيما لكي تعترف بكل ما حدث. لما ضاق بها الحال بسبب إصرارهم على أن تخبرهم بقصة حملها، أشارت إلى رضيعها، بمعنى إسألوه، فعنده جواب لما يحيركم. سكت الجميع، وبدأ ينظر بعضهم إلى بعض، بقوة الله عز وجل أبهرت عقولهم، وأخرست ألسنتهم، وجعلتهم في دهشة من أمرهم. لمسوا في طريقة تواصلها معهم نوعا من الاستهزاء و الإزدراء. فـقالوا على سبيل الإنكار: «كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا» مريم: 29. سياق الحوار حافل بالعواطف والإنفعالات. دبت الغفلة إلى قلوبهم، ولم يستطيعوا أن يدركوا أنهم في موقف تحكمه المعجزات الإلاهية لا العادات البشرية.

إن عدم إدراكهم بأن ولادة عيسى من دون أب آية من آيات الله تعالى، زاد لفهمهم المسألة صعوبة وحدة. قضى الله سبحانه وتعالى أن يجعل سيدنا عيسى معجزة المعجزات. بعد معجزة الحمل أراد الله عز وجل أن يريهم معجزة أخرى مؤكدة للأولى، ومناصرة لمريم عليها السلام، ومواسة لها. عندئذ جعل سبحانه وتعالى بقدرته الرضيع يقول: «إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا. وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا. وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا. وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا » مريم: 30 ـ 33. كلمات تحمل عبارات العبودية، ومنح الإلهية، وأوامر الربانية، وأعمال البر، واحلال الأمن النفسي. يصور القرآن الكريم معجزة سيدنا عيسى تصويرا دقيقا، حيث يذكر كيف جعل رضيعا يتكلم بكلام الحكماء تكريما لمريم عليها السلام. كل ذلك بفضل دعاء أم مريم عليهما السلام الذي تلقى القبول عند الله تعالى. حيث لما ولدت مريم عليها السلام توجهت أمها إلى الله تعالى بقولها: «وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» آل عمران: 36. كان الرد من الله عز وجل: «فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا» آل عمران: 37. تزيد أحداث الواقعة في كل مرة غرابة، ويزيد تصور طبيعتها مرة بعد مرة عمقا. فكيف لصبي  في المهد أن تكون أول كلمة تجري على لسانه العبودية لله تعالى، وكيف يمكن له أن يعلن عن آفاقه المستقبلية للحاضرين. لقد عايش قوم مريم عليها السلام بأم أعينهم معجزة ربانية، وحجة شاهدة على من يشكك في براءة مريم عليها السلام. «إِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ» ال عمران: 45 ـ 46.

مقالات ذات صله

تريد البقاء على اطلاع حول أحدث مقالاتي؟

اشترك هنا في النشرة الإخبارية الشهرية