دروس خطبة حجة الوداع

الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

 معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، وبها ترفع الدرجات، وبها يرتقي الإنسان عن الهفوات، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»

 كانت حجة الوداع آخر عهد للنبي صلى الله عليه وسلم بالبيت الحرام، فرسم فيها صلى الله عليه وسلم مبادئ المعاملات، وبين فيها الأحكام الشرعية العملية، وخاصة المتعلقة بالحج. بمناسبة أيام الحج سوف أعرض عليكم بعض ما جرى في هذه الحجة من مواقف ومشاهد نبوية شريفة. في السنة العاشرة من الهجرة، خرج رسول الله عليه وسلم من المدينة المنورة متجها إلى مكة المكرمة، قاصدا حج بيت الله الحرام، فخرج معه أكثر من مائة ألف من الصحابة والصحابيات. وكان صلى الله عليه وسلم يَعظهم، ويعلمهم مناسك الحج في كل موقف من مواقف الحج، وكان صلى الله عليه وسلم يقول لهم: « يَا أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوا مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّي لاَ أَدْرِي لَعَلِّي لاَ أَحُجُّ بَعْدَ عَامِي هَذَا» النسائي. وفي يوم عرفة نظر صلى الله عليه وسلم إلى الألوف الملبية “لبيك اللهم لبيك” فانشرح صدره، واستنار وجهه لاستجابة هذه الجماهير لأمر الله تعالى، واهتدائها إلى دين الإسلام، فعزم صلى الله عليه وسلم أن ينتهز فرصة ذلك التجمع العظيم، ليقول كلمات جامعة، يؤكد فيها على مقاصد الإسلام، وشريعته السمحة، من حفظ الدماء والأموال والأعراض. فألقى خطبة شاملة جامعة، فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ، اسْمَعُوا قَوْلِي، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا، بِهَذَا الْمَوْقِفِ أَبَدًا» وهنا أشعر النبي صلى الله وسلم المسلمين بدنو أجله، ثم ذكر صلى الله عليه وسلم المسلمين مما يجب الإلتزام به أو الحذر منه، فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ إلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبَّكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، وَكَحُرْمَةِ شَهْرِكُمْ هَذَا، وَإِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، وَقَدْ بَلَّغْتُ» لوتأمل الناس عموما والمسلمون خصوصا هذه الكلمات النبوية، لما سُفكت قطرة دم انسان، ولما سرقت الأموال، ولا اختلست، لكن لما ابتعد الناس عن منهج النبي صلى الله عليه وسلم، أصبح دم الإنسان، وخصوصا دم المستضعفين لا يزيدعن قيمة دم برغوث، لو التزم المسلمون بوصية نبيهم، واستحضروا قوله صلى الله عليه وسلم « وَإِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ» لما حدث مما نراه من سفك الدماء هنا وهناك. لو توقف كل انسان وقفة مع نفسه، وسأل نفسه بماذا يجيب الله تعالى عندما يسأله لماذا اعتدى على حرمات الناس؟ بأي حق تُسفك دماء الأبرياء، وتُدمر بيوتهم؟ أين العدالة؟ أين مؤسسات حقوق الإنسان ومنظمة الأمم المتحدة التي جعلت حفظ الأمن والسلام الدولي من أهدافها الأساسية؟

 ينتقل بنا النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته إلى قضية من القضايا الكبرى، وإلى أحد المبادئ الجوهرية في توطيد العلاقات، واستقرار المجتمعات، ألا وهي قضية الأمانة. قال صلى الله عليه: « فَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَلِيُؤَدِّهَا إلَى مَنْ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا» فما هو واقع المسلمين في هذا العصر بخصوص مسألة الأمانة؟ فهل فَهم المسلمون معنى الأمانة التى حملها إياهم ربهم عز وجل ونبيهم صلى الله عليه وسلم؟ جعل الإسلام من الأمانة معنى واسعا، ومفهوما شاملا، فمن الأمانة حفظ أسرار الناس، ولا يجوز إفشائها، ومن الأمانة حفظ أموال الناس، وأدائها إلى أصاحبها متى طلبوها، ومن الأمانة القيام بالمسؤلية المنوطة بك على الوجه الصحيح، دون إفراط ولا تفريط، ومن الأمانة اتقان عملك الذي كلفت به. قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُم عَمَلًا أَن يُتقِنَهُ» أبو يعلى. وأكد القرآن الكريم على هذه المعانى بقوله: فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُالبقرة: 238. ثم نبه النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته المسلمين إلى مسألة اقتصادية تضر الفقراء، وتزيد في ثراء الأثرياء، وهي مسألة الربا، فقال صلى الله عليه وسلم: « وإنَّ كُلَّ رِبًا مَوْضُوعٌ ، وَلَكِنْ لَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ ، لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ، قَضَى اللَّهُ أَنَّهُ لَا رِبَا». فتحريم الربا ثابت بكتاب الله تعالى، وبسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فشرع الإسلام البيع، وحرم استغلال حاجة الناس. قال تعالى:وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَاالبقرة: 275. ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بمكائد الشيطان ومداخله، فقال: «أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ مِنْ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ هَذِهِ أَبَدًا، وَلَكِنَّهُ إنْ يُطَعْ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَقَدْ رَضِيَ بِهِ مِمَّا تَحْقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَاحْذَرُوهُ عَلَى دِينِكُمْ». يدلنا هذا الخطاب النبوي الشريف على مدخل من مداخل الشيطان، وهو استصغار الذنوب، والتساهل في ارتكابها، ونبهنا صلى الله عليه وسلم في أحاديث أخرى أن الإصرار على الصغيرة كبيرة. ثم أثار النبي صلى الله عليه وسلم مسألة، طالما نجد من يحفظ حققها وكرامتها، حتى الذين يدعون أنهم يدافعون عن حقها، بل لقد جعلوها وسيلة في ترويج السلع، وجلب الزبناء. احتوت خطبة الحج هذه العبارات النبوية الشريفة: «وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ لَا يَمْلِكْنَ لِأَنْفُسِهِنَّ شَيْئًا، وَإِنَّكُمْ إنَّمَا أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ». بهذا يغرس النبي صلى الله عليه وسلم في النفوس أن العلاقة بين المرأة والرجل قائمة على عهد الله وأمانته، فمن حفظها حفظه الله، وكانت له نورا وبرهانا، وفي مناسبات أخرى وصف النبي صلى الله عليه وسلم خير الأزواج بقوله: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي» الترمذي. كما يؤكد القرآن الكريم على هذه المعاني بقوله:وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًاالنساء: 19

بارك الله لي ولكم في القران العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الايات والذكر الحكيم …أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

  الخطبة الثانية:

 الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

معشر الإخوة والأخوات:

 كما وجه صلى الله عليه وسلم من خلال خطبة حجة الوداع نداءه للبشرية عامة، في كل زمان ومكان، بالتمسك بالتوجيهات القرآنية والترشيدات النبوية الشريفة في مناهجهم ومعملاتهم، فقال صلى الله عليه وسلم: « فَاعْقِلُوا أَيُّهَا النَّاسُ قَوْلِي، فَإِنِّي قَدْ بَلَّغْتُ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا ، أَمْرًا بَيِّنًا، كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ». وفي موقف من مواقف حجته صلى الله عليه وسلم وصى المسلمين بالمحافظة على الشعائر التعبدية، والوحدة بين الأمة فقال:‏ «اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرِكُمْ، تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ» الترمذي. و ينقل لنا عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما مشهدا آخر من مشاهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يجيب عن أسئلة المستفتين، قال: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنًى لِلنَّاسِ يَسْأَلُونَهُ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ‏.‏ فَقَالَ: ‏”‏ اذْبَحْ وَلاَ حَرَجَ ‏”‏‏.‏ فَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ، فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ‏.‏ قَالَ ‏”‏ ارْمِ وَلاَ حَرَجَ ‏”‏‏.‏ فَمَا سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَىْءٍ قُدِّمَ وَلاَ أُخِّرَ إِلاَّ قَالَ: افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ‏» البخاري. استخلص علماؤنا من قوله صلى الله عليه وسلم: « افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ» قاعدة التيسير والمرونة التي تجعل أحكام الشريعة واضحة وجلية، ومبادئها ثابتة وخالدة، فلا يحق لأحد أن يحكم على دين الإسلام من خلال تصرفات بعض الأشخاص بسبب جهلهم أوبسب مصلحة دنيوية تجعلهم يستعملون الإسلام مطية لتحقيقها، والمقصود من قوله صلى الله عليه وسلم « افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ » التسهيل على المكلفين والتخفيف عنهم في التكاليف الشرعية التي أمروا بها فعلا أو تركا. ويؤكد على هذا المعنى قوله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍالحج: 78. نسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه.

مقالات ذات صله

تريد البقاء على اطلاع حول أحدث مقالاتي؟

اشترك هنا في النشرة الإخبارية الشهرية