خصائص الإنسانية في آية 13 من سورة الحجرات

الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا  وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين» 

يعلمنا القرآن الكريم أن الإنسان بطبعه يجنح إلى بناء العلاقات الإجتماعية، نقرأ في القرآن الكريم أن الله تعالى قد حدد علاقة الناس بعضهم ببعض على أسس ثابتة، ومقاصد واضحة. تتجلى في الإنسان القدرة الإلاهية في كل جزء من أجزاء جسمه. جعل الله تعالى الإنسان كائنا يفكر ويختار، وذي بصيرة وإرادة. كما أنه تعالى جعل الإنسان يتكون من بعض مكونات الرجل والمرأة. قال الله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» الحجرات: 13. يهتف النداء الرباني إلى الإنسانية جميعها باختلاف أجناسها وألوانها، لإخبارهم بأن أصلهم وجذورهم واحدة. حيث تتوحد فيهم الخصائص الإنسانية من إدراك ووعي وشعور وكرامة.

تؤكد الآية الكريمة التي سلف ذكرها على أول خَصِيصة من خصائص الإنسانية هي مساواة الناس في أصل الوجود. نقرأ في كتاب الله عز وجل أن حياة الإنسان تبدأ بدمج أخلاط من نطفة الرجل ببويضة المرأة. قال الله تعالى: «إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا» الإنسان: 2. هذه الخَصِيصة تُسقط  جميع معايير التفاخر، وتنسف جميع أنواع التمييز العنصري بين الناس، وجميع الفوارق الإجتماعية. وبها يؤكد القرآن الكريم على أنه لا فرق بين شريف ووضيع، ولا بين غني وفقير، ولا بين حاكم ومحكوم، ولا بين رجل وامرأة. شدد القرآن الكريم بالنص الصريح القطعي على سواسية الناس في الإنسانية والكرامة. إن الإنسان في ميزان القرآن الكريم مكرم ومعزز، بغظ النظر عن أصله وفصله، وعن دينه ومعتقده، وعن مركزه الإجتماعي. فقد خلقه الله تعالى ابتداء حرا مكرما ومعززا. لا يملك أحد أن يُجرده من كرامته التي أودعها الله تعالى في فطرته وطبيعته. في هذا السياق يقول الله تعالى: « وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً» الإسراء: 70. لقد خلد التاريخ قولة سيدنا عمر رضي الله عنه: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً» حياة الصحابة.  في موسم الحج وأثناء إلقاء سيدنا النبي ﷺ خطبة حجة الوداع أكد على مبدإ المساواة بين الناس بقوله: «يا أيُّها الناسُ إنَّ ربَّكمْ واحِدٌ، ألا لا فضلَ لِعربِيٍّ على عجَمِيٍّ، ولا لِعجَمِيٍّ على عربيٍّ، ولا لأحمرَ على أسْودَ، ولا لأسودَ على أحمرَ إلَّا بالتَّقوَى، إنَّ أكرَمكمْ عند اللهِ أتْقاكُمْ» البيهقي.

تشير الآية الكريمة التي سلف ذكرها إلى خَصِيصة ثانية وهي أن الله تعالى خلق الناس شعوبا وقبائل، مما يعني أنه تعالى خلقهم مختلفي الألسنة والطبائع، ومختلفي الأجناس والألوان، ومختلي المواهب والقابليات. لقد إهتم القرآن الكريم بكل ما يؤدي إلى توثيق العلاقات بين الناس شعوبا وقبائل، وبكل ما يحميهم من الفُرقة والتباغض. لقد نهى الإسلام عن كل أشكال العنصرية أو العصبية. حيث قال سيدنا محمد ﷺ عن العنصرية والعصبية: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ» مسلم. لا ريب ان العنصرية والعصبية تُولد البغضاء بين الناس، وإذا فشت البغضاء في أي مجتمع فإنها تدمر مقوماته الإجتماعية والإقتصادية على السواء.

كذلك تشير الآية الكريمة إلى خَصِيصة ثالثة التي تساعد على تحقيق الوئام بين مختلف الثقافات ألا وهي التعارف. إن التعارف سنة إلهية، وضرورة اجتماعية لا يستغني عنها مجتمع إنساني. يُظهر الله سبحانه وتعالى من خلال النداء القرآني الغاية من جعل الإنسانية شعوبا وقبائل. جعل الله سبحانه وتعالى الإنسانية شعوبا وقبائل ليتعارفوا ويتعاونوا لا لتتجاهلوا ويتخاذلوا. من خلال التعارف يريد الله عز وجل أن يؤصل روح التآلف، ويرسي دعائم التعاون بين الناس، وينقذ الإنسانية من العصبية للجنس، والعصبية للون، والعصبية للأرض. إن التعارف قاعدة اجتماعية، حيث نجد كل المنظمات الدولية على اختلاف توجُّهاتها ومرجعياتها تركِّز على ضرورة ترسيخ قيمة التعارف والتعايش. إن التعارف وسيلة حضارية تجعل الفرد يخرج من فضاء ذاته ليتواصل مع فضاء الآخرين. يكمن أهمية التواصل مع الآخرين في بناء قواعد العيش المشتركة. يبين سيدنا محمد ﷺ مفهوم وأهمية التعارف بقوله: «الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» مسلم. إن التعارف له قيمة حيوية متبادلة بين المتعارفين. يساهم التعارف بصورة كبيرة في تحقيق مظهر التعاون على الخير. حيث يرشدنا القرآن الكريم إلى حضارة تقوم على مبدأ التعاون والتكامل. تعاون يترتب عليه نفع للإنسانية دون تمييز أو تفريق بين جنس أو لون أو عرق. قال الله تعالى: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ» المائدة: 2.

مقالات ذات صله

تريد البقاء على اطلاع حول أحدث مقالاتي؟

اشترك هنا في النشرة الإخبارية الشهرية