المرحلة الأولى من حياة الإنسان

الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا  وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»

يمر الإنسان في حياته ومماته بمراحل متعدد، ولكلّ واحدة منهما خصائصها وسماتها تتميز بها، ونستطيع أن نجمل هذه المراحل فيما يلي: مرحلة حياة الرحم، وحياة الدنيا، وحياة البرزخ، والمحشر، وحياة الجنة أو جهنم أعاذنا الله منها.  ففي حياة الرحم تتشكل أعضاء الجنين، وتكتمل صورته الخِلقية. فيما يقارب تسعة أشهر ينتقل الجنين طورا بعد طور في رحم أمه حتى يخرج إلى حياة الدنيا طفلا كامل الخلقة وسوي التكوين. يقول الله تعالى: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مِّن طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً في قَرَارٍ مَّكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخالقين» المومنون: 14. يشير النص القرآني إلى أطوار نشأة الجنين في رحم أمه، وبذلك يقرر القرآن الكريم حقيقة مراحل خلق الإنسان، ليتخذها كل متأمل مجالا للتدبر في صنع الله تعالى، جرت سنة الله تعالى على أن تكون نشأة الإنسان من نطفة تخرج من صلب الرجل، وتستقر في رحم المرأة. فتمتزج خلية الذكر ببويضة الأنثى، ثم تتعلق بجدار الرحم نقطة صغيرة، تتغذى بدم الأم، وتتحول العلقة مضغة، ثم تصبح المضغة عظاما بعد ذلك. وقد ثبت علميا أن خلايا العظام هي التي تتكون أولا في الجنين، ثم يكسيها الخالق بخلايا اللحم، فسبحان العليم القدير. تعتبر المشيمة حلقة الوصل ما بين الجنين والأم، وعن طريقها يتلقّى الجنين من أمّه مباشرة حاجاته الأساسية من غذاء وحماية، وعن طريق الحبل السري تزود الأم جنينها بالأكسجين والطعام. فلتحرص الأم على اتباع حمية صحية لينمو جنينها بوضع سليم، ولتقيه تشوهات بدنية ونفسية. وعلى الزوج كذلك أن يعامل زوجته برفق، ويعزز لها ولأسرتهما البيئة الصحية. وبيانا لما جاء في كتاب الله تعالى في موضوع الجنين يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا مَلَكًا فَصَوَّرَهَا وَخَلَقَ سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا وَجِلْدَهَا وَلَحْمَهَا وَعِظَامَهَا، ثُمَّ‏‏ قَالَ يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ ثُمَّ يَقُولُ يَا رَبِّ أَجَلُهُ‏.‏ فَيَقُولُ رَبُّكَ مَا شَاءَ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ ثُمَّ يَقُولُ يَا رَبِّ رِزْقُهُ‏.‏ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ ثُمَّ يَخْرُجُ الْمَلَكُ

الخطبة الثانية:

الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما  بعد:

بعد أن تكتمل صورة الجنين الآدمية يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح. فإذا نفخ فيه الروح يصبح إنسانا حيا تجب له كافة الحقوق وأبسطها حق الحياة. «الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ. ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ۖ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ» السجدة: 7-9. ويقول تعالى: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ. فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ» الحجر: 28- 29. ’فإذا صوّرته فعدَّلت صورته نفخت فيه من روحي فصار بشرا حيا‘ الإمام الطبري. تؤكد النصوص القرآنية أن الروح تنفخ في الجنين بعد أن تتشكل صورته الإنسانية. إن الروح مسألة غيبية لا علاقة له بالطب، وليس بمقدوره على أن يبرهن عن تحديد زمن نفخ الروح في الجنين. يقول الله تعالى عن الروح: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» الإسراء: 85. لقد عجز الأوائل عن إدراك ماهية الروح بعد إنفاق الأعمار الطويلة على الخوض فيه. والحكمة في ذلك تعجيز العقل عن إدراك معرفة مخلوق مجاور له ليدل على أنه عن إدراك خالقه أعجز. (مدارك التنزيل وحقائق التأويل). إن الروح سر من أسرار الله تعالى، وليس النمو والحركة كما يزعم البعض. فإذا كان العقل عاجزا عن إدراك هذه الحقيقة، فلا يبقى لنا إلا النقل. والذي اشتهر بين علماء المسلمين، ودل عليه الحديث الصحيح الصريح، الذي تلقاه المسلمون بالقبول أن نفخ الروح يكون بعد مائة وعشرين يوما مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ» مسلم. مع العلم أن قلب الجنين يبدأ بعد الثاني والعشرين يوما من التلقيح  ينبض، ومنذ تلك اللحظة تبدأ الدورة الدموية تعمل. وهذا لا يعني الحياة الإنسانية، وإنما هي حياة الأعضاء. فيجب أن نفرق بين الحياة التي يجعلها الله سبحانه وتعالى في أعضاء الإنسان، وبين التي يجعل الله تعالى في الإنسان عن طريق الروح الإلاهية. قال ابن القيم رحمه الله تعالى:  إن للجنين حياتين، الأولى: كحياة النبات تكون معه قبل نفخ الروح، ومن آثارها حركة النمو والاغتذاء غير الإرادية، والثانية: حياة إنسانية وتحدث في الجنين بنفخ الروح فيه، ومن آثارها الحس والحركة الإرادية. (التبيان في أقسام القرآن) ص 351. أما القول أن نفخ الروح يقع في الأربعين، لا علم الطب يقول بذلك ولا وحي صحيح وصريح يؤكده. والحديث الذي رواه الإمام مسلم «إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً» يتحدث فقط عن تخليق وتصوير الجنين. والله ولي التوفيق.

بِالصَّحِيفَةِ فِي يَدِهِ فَلاَ يَزِيدُ عَلَى مَا أُمِرَ وَلاَ يَنْقُصُ» مسلم

مقالات ذات صله

تريد البقاء على اطلاع حول أحدث مقالاتي؟

اشترك هنا في النشرة الإخبارية الشهرية