الدين والتدين

الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا  وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين» 

لقد أنعم الله تعالى على الإنسان بإنزال الكتب وإرسال الرسل، فمن خلالهما وجد الإنسان حاجته الروحية، وتعرف على أبعاده الأخلاقية. أخرجت الرسالة الإلهية الناس من غياهب الضلال إلى نور الهداية. تنظم الهداية الربانية علاقة الإنسان بربه، وعلاقته بنفسه، وعلاقته بمحيطه. هذا الشرع الإلاهي المنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عن طريق الوحي هو الذي يطلق عليه اسم الدين.

فالدين هو مجموعة من النصوص الشرعية المتعلقة بالعقائد و العبادات و المعاملات. يبين القرآن الكريم جوهر العقيدة الإسلامية، وهي أن الخالق واحد، لا أول له ولا آخر، قدير على كل شىء، عليم بكل شىء، محيط بكل شىء، وليس كمثله شىء وهو السميع البصير. قال الله تعالى: «قُلْ هُوَ اللَهُ أَحَدٌ » الصمد. وفي آية أخرى قال تعالى: «هُوَ الأوَلُ وَالآخِرُ وَالظَاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِ شَيْءٍ عَلِيمٌ» الحديد. تُكَون العقيدة القاعدة الأساسية للدين الإسلامي. وهي تفسر للإنسان طبيعة وجوده، وترسم له معالم صلته بالله تعالى، وبالكون من حوله. يقرر القرآن الكريم حقيقة عظيمة تتعلق بوجود ألإنسان. خلق الله تعالى الإنسان لعبادته، وإقامة أمره في الأرض. قال الله تعالى: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» الذاريات: 56. وقال سبحانه وتعالى: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً»البقرة: 30. إن الإنسان إذا ترك لفطرته بعيدا عن المؤثرات الخارجية، والعوامل الثقافية لاهتدى إلى الغاية التي وُجد من أجلها. قال رسو الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ،  فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ»‏ البخاري. ان نزعة التدين أصيلة في فطرة الإنسان. ويؤكد القرأن الكريم هذه الحقيقة بقوله: « فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» الروم: 30.  تمثل العبادة أحد أوجه الثابتة لدين الإسلام، فهي تتميز بالثبات والمرونة، لا تتأثر بظروف تطور الحياة، ولا تخضع لعوامل التغيير، ولا لمستجدات الأحداث. تتصف العبادة في الإسلام بالمرونة والتخفيف لأصحاب الأعذار. فهي تراعي ظروف المسلم والمسلمة الصحية والإقتصادية.

أما التصورات والتطبيقات العملية لتعليمات الدين يطلق عليها اسم التدين. يجب التمييز بين ما شرعه الله سبحانه وتعالى وسنه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وبين فهم الإنسان لهذه النصوص. فالأول هو الدين الواحد الثابت في ذاته غير قابل للتطوير أوالتجديد، بل هو عامل أساسي في التجديد، والدافع المستمر إلى السعي نحو مكارم الأخلاق. قال الله تعالى: «وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۗ »النساء: 125. أما فهم الإنسان لهذا الدين فهو متعدد ومتجدد، لأن التدين خاضع للمؤثرات المكانية والزمانية  والحالية. كل إنسان يتدين وفقا لفهم متأثر بمحيطه وزمانه. تتأثر فهم نصوص الدين بأعراف المجتمع وعاداته تأثيرا كبيرا. يعتبر فهم الإنسان للنصوص الشرعية فهما نسبيا، ومنهجا بشريا محتملا للصواب والخطأ. أنتجت الجدلية بين الدين والثقافة أنماطا من التدين. لقد تعددت صور التدين لدى المسلمين، بتعدد تقافتهم. تعبر المذاهب الإسلامية أحسن مثال على تعدد التدين في العالم الإسلامي.

لقد استخدمت السلطات عبر التاريخ الإسلامي الدين لإحكام قبضتها على البلاد والعباد. منذ القديم عملت السلطة على إخضاع الدين لسياستها، وعملت على انتاج نوعا من التدين الذي ينسجم مع مصالحها، وضيقت الخناق على كل فقيه لا يخضع لتعليماتها. كل من خالف سياسة الدينية للسلطة كان مصيره السجن أو الطرد وإحراق كتبه. عملت السلطة خلال فترات تاريخ الإسلام على صناعة فقهاء على مقاسها، وأصبحت تتحكم فيما يلقى في المساجد من الخطب والدروس. يجب على المسلم والمسلمة أن يكون على دراية كيف نشأ التدين السائد في كثير من البلدان. كما يجب عليه أو عليها أن يفرق بين الدين الذي جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وبين الأراء الفقهية التي تأثرت بالبيئة الحاضنة للفقيه. قال الله تعالى: « المص . كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ . اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ» الأعراف: 1- 3. وقال صلى الله عليه وسلم: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» مسلم.

مقالات ذات صله

تريد البقاء على اطلاع حول أحدث مقالاتي؟

اشترك هنا في النشرة الإخبارية الشهرية