التوازن بين دوافع العاطفية وأنوار العقلانية

الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا  وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»

إن الظروف التي يعيشها الإنسان تؤثر تأثيرا كبيرا في عواطفه وأفكاره، لذلك يخضع السلوك الإنساني إلى عاملين أساسيين، وهما العقل والعاطفة. ومن أهم عوامل استقرار نفس الإنسان واطمئنانها هو توافق بين التفكير والوجدان أي بين العقل والقلب. إن من الناس ما هو عقلاني، فيتعامل مع الوقائع بعقلانية، تغلب عليه قواعد المنطق، والتصرف بالجمود والقسوة، ومنهم ما هو عاطفي، تغلب عليه العواطف، والتصرف باندفاع وتهور. لقد خلق الله الإنسان مزيجاً من العقل والوجدان، حتى لا يتيه الإنسان شرع الله له قواعد تضبط التوازن بين  مقتضيات عقله ومتطلّبات عاطفته. يجب أن نضبط حركة العاطفة، حتى لا تطغى الشخصية العاطفية علينا، وتحكمنا ردود انفعالية طائشة، لها نتائجها الوخيمة، وأثارها الخطيرة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهْوَ غَضْبَانُ» البخاري. إن الله عز وجل لا يريدنا أن نتصرف من خلال العاطفة والإنفعال، بل يريدنا أن نفكر وأن نخطط لما سنفعل، وينهانا عز وجل أن نكون الأمة العاطفية، الأمة التي تهتف عندما يهتف الهاتفون، ويأمرنا أن نكون الأمة المتوازنة بين العقل والعاطفة، الأمة التي تراعي المصلحة العامة.

لا يستغني العقل والعاطفة عن بعضهما البعض، حيث أن صلابة العقل تلطفها رقة العاطفة، وطيش العاطفة يهذبها تدبير العقل. لكل واحد منهما له دوره الفعال في حياة الإنسان. لقد حذر القرآن الكريم النبي صلى الله عليه وسلم من اهمال الجانب العاطفي في تعامله مع الناس، يقول الله تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ» ال عمران: 159. كذلك نقرأ في القرآن تحذير الله عز وجل المسلمين من الانجذاب نحو العاطفة في غير محلها، يقول تعالى: «وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى» المائدة: 8، أي: لا يحملنكم بغض قوم -وهذا من جهة العاطفة- على ألا تحكموا بالعدل –وهذا من جهة العقل- بل اتركوا العاطفة جانبًا واحكموا بحكم العقل الموافق للشرع لأن ذلك تقوى وقربى إلى الله. فعلى المسلم أن يراعي في تصرفاته العدل والإحسان؛ أي بين العقل والعاطفة. يقول الله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ» النحل: 90. فالعدل من أحكام العقل، والإحسان من فيض العاطفة، كلاهما لا ينفصلان لأن الإنسان لا يتكامل إلا بشقيه العقلي والعاطفي، والآيات الدالة على مشروعية العدل الذي منبعه العقل، والعفو الذي منبعه العاطفة كثيرة، منها قوله تعالى: «وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ» النحل: 126، وقوله عز وجل: «وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ» الشورى: 40.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما  بعد:

معشر الإخوة والأخوات:

فالتوازن بين العقل والعاطفة هو المنهج الذي سار عليه الخطاب القرآني، الحكمة والموعظة الحسنة هما مدار التوجيه القرآني لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، يقول سبحانه وتعالى: «ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» النحل: 125. ان المتتبع لواقع الخطاب الديني اليوم بكل انواعه المقروء والمسموع والمرئي يراه يغرق في الخطاب العاطفي الوجداني. ويرى أيضا أن الخطاب العاطفي كثيرا ما يغذي ثقافة التطرف، ولا سيما في الأوساط التي تعيش المعاناة والإقصاء، وما التشدد و التعصب و الطائفية إلا نتاج الخطاب العاطفي، وغياب الخطاب العقلاني. في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم نقرأ كيف كان عليه الصلاة والسلام يرشد الصحابة رضوان الله عليهم إذا غلب على أفكارهم الطابع العاطفي. ومن الأمثلة في هذا السياق، في يوم صلح الحديبة حركت عاطفة إيمانية جياشة وجدان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، حيث أنه رأى من الذل والمهانة القبول بهذا الصلح الذي غابت فيه الشروط العادلة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْنَا عَلَى حَقٍّ، وَهُمْ عَلَى بَاطِلٍ. قَالَ: بَلَى‏.‏ قَالَ: أَلَيْسَ قَتْلاَنَا فِي الْجَنَّةِ، وَقَتْلاَهُمْ فِي النَّارِ. قَالَ: بَلَى‏.‏ قَالَ: فَفِيمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا، وَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ. فَقَالَ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللَّهُ أَبَدًا» مسلم. ومن الجانب الآخر أنه من يتنكر للعاطفة، فإنه يتنكر لطبيعة الإنسان التي تحتاج إلى لمسات عاطفية وأنوار عقلانية. يجب علينا معشر المسلمين أن نجتنب الوقوع في مزالق الخطاب العاطفي، والتخلص من قسوة الخطاب العقلاني. إن الشخصية الانسانية تقوم على معادلة دقيقة بين العقل والعاطفة، وأي اختلال في هذه المعادلة قد يسبب للإنسان حالة من الاضطراب والتهور في فكره وسلوكه. ويجدر بالمسلم أن يتمسك بتراث أئمتنا الثقات الذين شهدت لهم الأجيال بالإمامة، كأصحاب المذاهب  الإسلامية.

مقالات ذات صله

تريد البقاء على اطلاع حول أحدث مقالاتي؟

اشترك هنا في النشرة الإخبارية الشهرية