البعد الروحاني في حياة النبي صلى الله عليه وسلم

الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد لله الذي هدانا لنعمة الإسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا  وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

إن البعد الروحاني الذي جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو أساس الإشراقات الحضارة الإسلامية، وسر دخول الناس في الإسلام أفواجا. إن المقصود من البعد الروحاني في الإسلام هو الصلة بالله تعالى، وانشداد النفس به تعالى من حيث الإيمان والإخلاص. إن الجانب الروحي المرتبط بالله تعالى هو الذي يشكل الأساس الذي يُقوِم الشخصية الإسلامية. فكان صلى الله عليه وسلم يهتم بالتربية الروحية، فقبل الإسلام كان صلى الله عليه وسلم يختلي بنفسه إلى غار حراء، يمشي ما يقارب ثلاث كيلومترات في أوعر طريق، وأصعب مسلك. يصعد إلى قمة الجبل، ليجلس بين صخور، يتأمل في ملكوت السماوات والأرض، ويفكر في الحقائق الكبرى. كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعبد في غار حراء الليالي ذوات العدد، ويعتكف فيه في كل سنة شهراً بأكمله، والسيدة خديجة كانت تأتيه بالطعام والشراب. ألك أيها المسلم وأيتها المسلم مع الله خلوة ؟ ألك مع الله مناجاة ؟ هل خصصت وقتا تتأمل فيه وتفكر في هذا الكون المبدع؟ وماذا بعد هذه الحياة الدنيا؟ وماذا أعددت للحياة الآخرة؟ تأمل في قوله تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً 103 الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً 104 الكهف. لقد اهتم النبي صلى الله عليه وسلم ببناء الشخصية الإسلامية بالعبادة الباطنية من إيمان وإخلاص لله تعالى، ومجاهدة النفس، وبالعبادة الخارجية من صلاة وصيام و معاملات. تأثير متبادل بين العبادة الباطنية والعبادة الداخلية. نستقرأ من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم جوانب مشرقة، وهمة عالية، وعقلية منفتحة، مبنية على طاعة الله تعالى، ومحبة الناس، ومعرفة عيوب النفس، ومداخل الشيطان، واهتمامه صلى الله عليه وسلم بما يرقق القلوب، ويذكر بالآخرة.

إن الدارس لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم يستقرأ أبعادا روحانية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت نفس النبي صلى الله عليه وسلم باقة من الفضائل، والمثل الرفيعة، والقيم الصالحة، إن الهدف من التربية الروحية في الإسلام أو تزكية النفس، أو السير إلى الله سبحانه وتعالى، هو الإنتقال من نفس مضطربة إلى نفس مطمئنة،  ومن عقل شارد ، إلى عقل عارف بالله تعالى، وأول مظاهر التربية الروحية عند النبي صلى الله عليه وسلم  هي قوة يقينه بالله تعالى. لقد تعرض سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لشتى من المواقف الصعبة، وبخاصة أثناء هجرته من مكة إلى المدينة عندما وقف المشركون على باب الغار الذي فيه النبي  صلى الله عليه وسلم وصحبه، وسمع أبو بكر الصديق أصواتهم فأقبل عليه الهم والخوف، فعند ذلك يقول له النبي صلى الله عليه وسلم:  لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا التوبة: 40. كانت شدة صلته صلى الله عليه وسلم بالله تعالى، وقوة معنوياته الروحانية تسليةً لضغوطه النفسية، وتخفيفا لهمومه الإجتماعية. بذلك كانت العناية الإلاهية ترعاه صلى الله في باطنه وظاهره، وتزوده بقوة وجدانية خارقة، فكانت نفسه صلى الله عليه وسلم بذلك غنية،  تعرض عليه الدنيا من قبل سفير قريش عتبة بن ربيعة فيرفضها رفضا، فيقول له: «يَا ابْنَ أَخِي ، إنْ كُنْتَ إنَّمَا تُرِيدُ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ مَالًا جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ شَرَفًا سَوَّدْنَاكَ عَلَيْنَا ، حَتَّى لَا نَقْطَعَ أَمْرًا دُونَكَ ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ مُلْكًا مَلَّكْنَاكَ عَلَيْنَا» ابن هشام. لكن قوته الروحانية تجعله صلى الله عليه وسلم يرد على كل الإغراءات والتهديدات بقوله: « يَا عَمُّ ، وَاَللَّهِ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي ، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ ، أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ ، مَا تَرَكْتُهُ» ابن هشام.  يعلمنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الفراغ الروحي لا يملؤه المال، ولا السلطة، ولا المكانة، ولا المتعة. إن الفراغ الروحي  لا يملؤه إلا عبادة الله تعالى، وهذا ما يعبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بحقيقة الغنى بقوله: « لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» البخاري.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد

إن دراسة للوقائع الإسلامية في سيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تكشف أن الروحانيات كانت ملازمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في معاملاته اليومية، في رخائه وشدته، في يسره وعسره، فكان صلى الله عليه وسلم يضمد بذلك جراح نفسه، ويجبر انكسار قلبه. بوفاة زوجه خديجة رضي الله عنها، وعمه أبي طالب تكالبت عليه صلى الله عليه وسلم الأحزان وزادت همومه ، فعزم على الخروج إلى الطائف راجياً ومؤملاً أن تكون أحسن حالاً من مكة، وأن يجد من أهلها نصرة لدين الإسلام، فكلم أهل الطائف عن الإسلام، فكذبوه وردوا عليه ردا عنيفا، وطردوه صلى الله عليه وسلم من الطائف طردا، وشردوه تشريدا، وتهاوت عليه الأحجار من كل مكان، وأسمعوه من شتى أنواع السب والشتم، مذلة وما أعظم مذلة، دموع الأسى تذرف من عينيه الشريفتين، ودماء طاهرة تتدفق من قدميه، التجأ صلى الله عليه وسلم إلى بستان يحتمي بأشجاره من الحجارة، تحركت في وجدانه كلمات صادقة، وابتهالات روحانية، فرفع يديه صلى الله عليه وسلم إلى السماء مناجيا ربه بكلمات روحانية تنبع من أعماق قلبه الحزين: «اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي ، وَقِلّةَ حِيلَتِي ، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ ! أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي ، إلَى مَنْ تَكِلُنِي ؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي ؟ أَمْ إلَى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي ؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي ، وَلَكِنّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي ، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَك ، أَوْ يَحِلّ عَلَيّ سُخْطُكَ، لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِك» ابن هشام. اهتز لهذا الدعاء عرش الرحمن، فأرسل الله سبحانه وتعالى جبريل عليه السلام لينتقم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله« فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَىَّ ‏.‏ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ فَمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ» البخاري. لكن بعده الروحاني صلى الله عليه وسلم جعل تتحرك عنده عاطفة الرحمة فيقول صلى الله عليه وسلم: « بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» البخاري.  إن البعد الروحاني له بالغ الأثر في الوقاية من الأمراض النفسية والبدنية، وإن دل هذا على شيء، فإنما يدل على أن رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم رسالة شاملة وجامعة لقوانين تنظم حياة الإنسان، بما تجعله يعيش حياة سوية متوازية، تملؤها الثقة بالله أولا والناس ثانيا والمحبة، لا إفراط فيها ولا تفريط.

مقالات ذات صله

تريد البقاء على اطلاع حول أحدث مقالاتي؟

اشترك هنا في النشرة الإخبارية الشهرية