الإحتفاء بالولد النبوي عادة اسلامية حسنة

الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد لله الذي هدانا لنعمة الإسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا  وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

في كل شهر ربيع الأول من كل سنة يتلألأ نور نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في الأفاق. كان مولد خير البشرية على الأرجح في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول. لقد تعود المسلمون خلال قرون متتالية بإشعار العالم بهذه المناسبة الطيبة، وتذكير الناس بنبوة سيد المرسلين. قال تعالى:  قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ سبأ : 46. تشير الآية الكريمة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بما يفتح للناس أبواب التأمل والطمأنينة، ويهيئ لهم أبواب السعادة والسلام. بمناسبة مولد نبي الرحمة ترج المساجد بأصوات الخطباء وهم يتحدثون عن سيرته العطرة، وتتعالى حناجر المنشدين بأناشيد وأشعار في مدح خير البرية، وتتكاثر الحلقات في دراسة شخصية المصطفي صلى الله عليه وسلم. كان خلقه الحسن معروفا في قومه، ومشهودا له قبل الإسلام وبعده بالفضيلة والمروءة ، وكان صلى الله عليه وسلم يكنى بالصادق الأمين، ومتحليا بالأخلاق السامية، والعادات الحسنة. وإذا تحدثنا عن ذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم فإننا نتحدث عنه من باب التذكير بنعمة النبوة،  وأنها صورة من صور شكر الله تعالى على بعثة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. والتذكير بالنعمة مشروع ومحمود في دينا الحنيف، والله تعالى يأمرنا بذلك في كتابه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ الأحزاب: 9. ولذا قال الإمام ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى: (وأما ما يعمل في المولد فينبغي أن يقتصر فيه على ما يُفهٍم الشكر لله تعالى من نحو ما تقدم ذكره من التلاوة والإطعام والصدقة وإنشاد شيء من المدائح النبوية والزهدية المحركة للقلوب إلى فعل الخيراتِ والعملِ للآخرةِ، وأما ما يتبع ذلك من السماع واللهو وغير ذلك فينبغي أن يقال : ما كان من ذلك مباحا بحيث يقتضي السرور بذلك اليوم لا بأس بإلحاقه به ، وما كان حراما أو مكروها فَيُمنع (انتهى).

لقد كثر الجدل حول الإحتفال بذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم، واختلف العلماء في هذه المسألة، فمنهم من قال: إنها بدعة مذمومة، ومنهم من قال: إنها بدعة مستحسنة، ومنهم من جعلها عادة مباحة. قال الإمام تاج الدين عمر بن علي اللخمي المشهور بالفاكهاني رحمه الله تعالى أن عمل المولد بدعة مذمومة، وألف في ذلك كتابا سماه  ‘المورد في الكلام على عمل المولد’ وخلاصة ما قاله: لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين، بل هو بدعة أحدثها البطالون، وشهوة نفس اعتنى بها الأكالون (انتهى). ورد عليه الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى في رسالة سماها ‘حسن المقصد في عمل المولد’ وخلاصة ما كتبه بعدما أن ناقش وفند كلام الإمام الفاكهاني قال: عندي أن أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس، وقراءة ما تيسر من القرآن، ورواية الأخبار الواردة في مبدإ أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وما وقع في مولده من الآيات،  ثم يمد لهم سِماط يأكلونه، وينصرفون من غير زيادة على ذلك، هو من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها، لما فيه من تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم، وإظهار الفرح والإستبشار بمولده الشريف (انتهى). ولقد أشار سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فضل يوم ولادته بقوله حين سئل عن صوم يوم الإثنين: «ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَيَوْمٌ بُعِثْتُ أَوْ أُنْزِلَ عَلَىَّ فِيهِ» مسلم. فينبغي تعظيم هذا اليوم تعظيما يليق بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم اتباعا له ومقتديا به، حيث كان صلى الله عليه وسلم يخص الأيام الفاضلة بزيادة فعل الطاعات والعمل الصالح. قال ابن عباس رضي الله عنه: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَجَدَهُمْ يَصُومُونَ يَوْمًا، يَعْنِي عَاشُورَاءَ، فَقَالُوا هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ، وَهْوَ يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى، وَأَغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ، فَصَامَ مُوسَى شُكْرًا لِلَّهِ‏.‏ فَقَالَ: «أَنَا أَوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ ‏”‏‏.‏ فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ»‏ البخاري.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

معشر الإخوة والأخوات:

إن الإحتفال بالمولد النبوي عادة اسلامية، لم يقل أحد ممن شُهد لهم بأمانتهم العلمية أنه عبادة نقرب بها الى الله تعالى، بل هو عادة من العادات الإسلامية التي لا تصتدم ولا تتعارض مع نصوص الشرع الحكيم، والأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل النص الشرعي على النهي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَىْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» البخاري. فإن المجتمع الإسلامي مليئ بالعادات، فهل كل عادة هي بدعة، فالإحتفال بالمولد النبوي الشريف لا علاقة له بمفهوم البدعة، فالبدعة الضالة التي نهى عن النبي صلى الله عليه وسلم هي البدعة في العقيدة أو العبادة. وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ» البخاري. فيشير صلى الله عليه وسلم بقوله: «فِي أَمْرِنَا هَذَا» إلى أمور العبادة والعقيدة. فالإحتفال بالمولد النبوي عادة حسنة، وان حصل في بعضها مخالفات شرعية وطقوسات ما أنزل الله بها من سلطان من قبل بعض الناس أو من بعض أصحاب الهوى والمصالح، فهو من تقصير في توعيتهم، وبيان لهم ما يباح فعله في هذه المناسبة. قد يستعمل بعض المسلمين هذه المناسبة للترويح عن النفس وإثارة العواطف الجياشة تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكل ما يوافق مقاصد الإسلام فهو مقبول، وكل ما يخالفها فهو مردود. يثير بعض الناس شبهة، ومفادها أن أول من أحدث الإحتفال بالمولد هم الفاطميون العبيديون. فيحاول بهذه الطريقة تشويه هذه العادة الحسنة بنسبتها الى من عَلِم المسلمون حالهم في الإنحراف عن منهج النبوة. وفي الواقع أن الإمام السيوطي وابن كثير وغيرهما من الأئمة الذين شهد لهم المسلمون بالأمانة والصلاح ذكروا، أن أول من أحدث فعل المولد هو الملك المظفر أبو سعيد كُوْكْبُرِي، وهو أحد الملوك الأمجاد له أثار حسنة، كان عالما عادلا سنيا محبا للصدقة، كان في مناسبة المولد النبوي يطعم ويكسوا خلقا كثيرا، إكراما وتعظيما لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

المراجع:

حسن المقصد في عمل المولد  للإمام الحافظ جلال الدين السيوطي

صحيح البخاري للإمام محمد بن إسماعيل البخاري

صحيح مسلم للإمام  أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم

البداية والنهاية للإمام ابن كثير اسماعيل بن عمر الدمشقي

مقالات ذات صله

تريد البقاء على اطلاع حول أحدث مقالاتي؟

اشترك هنا في النشرة الإخبارية الشهرية