الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
لقد أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز أنه مطلع على الخلائق، يعلم أحوالهم، ويشاهد أعمالهم. لقد أحاط علم الله تعالى بما يجول في النفس من الخواطر، ويختلج في القلب من السرائر. قال الله عز وجل: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ. مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ« ق: 16-8 1. فعلم الله لم يسبقه جهل، ولا يعتريه نسيان، ولا يتقيد بزمان ولا مكان. وما يبدوا في الكون من نظام واتقان واحكام ما هو إلا برهان ساطع على شمول علمه، وكمال تدبيره. قال تعالى في محكم التنزيل: « وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ» الأنعام: 59. فاستشعر أيها المسلم وأيتها المسلمة أن الله تعالى مطلع على أعمالك، وحركاتك، وسكناتك، وأقوالك، وأفعالك، فهو القائل: «وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ۚ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ» يونس: 61. إن شعورالإنسان بمراقبة الله تعالى، والإيمان باطلاع الرقيب على تصرفاته الظاهرة والباطنة تجعله يجتهد في الطاعات، ويرتقي في سلم العبادات، ودرجات المعاملات. فمن أحسن مراقبة الله في أقواله وأفعاله وعباداته حقق درجة الإحسان، الذي حدده النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: « الْإِحْسَانُ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» البخاري.
فمعنى الإحسان هو مراقبة الله تعالى في السر والعلن، بالمحافظة على الواجبات، واجتناب المحرمات. المحسنون: هم السابقون إلى فعل الخيرات، المتنافسون في فضائل الأعمال .يقول الله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ » النحل: 128 ما أحوجنا إلى الضمير الحي الذي ينبهنا في حلنا وسفرنا، في نهارنا وليلنا، وفي حضور الناس أو في خلوة عنهم. والغَفلة عن الله تعالى هي التي جعَلتْ بعضَ الناس يضيعون الصَلاة مُطمئنِّين غير مُبالِين، وآخَرين يَأكُلون أموالَ الناس مُحتالِين، وفريقًا ينتهكون الحرمات. والله تعالى يقول: «وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ» إبراهيم: 42. ومن غفل عن مراقبة الله تعالى تجرأ على فعل المعاصي والمنكرات، وفرط فيما عنده من رصيد الحسنات. عَنْ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا» قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ. قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا» ابن ماجه. فاحذر أيها المسلم وأيتها المسلمة أن تغفل، فتختفي من الناس وتستتر عنهم فتعصي ربك الذي خلقك وسواك، وتنسى أن الله سبحانه وتعالى يسمعك ويراك في كل حين ومكان. يقول تعالى: «يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً «النساء: 108
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
معشر الإخوة والأخوات:
فتيقن أيها المسلم وأيتها المسلمة بأن الله معك يراك ويسمعك. فمراقبة الله سبحانه تعالى تقتضي أن يحترس المرء من خواطره، فلا يطلق لخياله العنــان، ويدع نفسه تشرُد في كل ما تشتهي وتتمنى. ويذكر دائما وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لإبن عمه إبن عباس رضي الله عنه: «يَا غُلاَمُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إذا سَألت فاسْأل الله، وإذا اسْتعنتَ فاسْتعن بالله» الترمذي. وقوله تعالى: «وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً» الأحزاب: 52. روي أن سيدنا عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: «كان يَتجوَّل ليلاً للاطمئنانِ على رَعيَّته، فسَمِع صوت بائعةِ اللَّبن وهي تقول لابنتها: يا بُنيَّتي، ضعِي الماء على اللَّبن، فقالتِ الفتاةُ: يا أُمَّاه، ألَمْ تَعْلمي أنَّ أميرَ المؤمنين قد نهَى عن خَلْط اللَّبن بالماء؟ قالت: يا بُنيَّتي، عمر بن الخطَّاب لا يرانا الآن، فقالتِ الفتاة: يا أُمَّاه، إنْ كان عمرُ لا يرانا، فرَبُّ عمرَ يَرانا». لقد تعجب سيدنا عمر رضي الله عنه من سلوك هذه الفتاة الأمينة الصادقة. لذلك سأل أولاده من يتزوجها، فتزوجها عاصم بن عمر، فولدت بنتًا، و صارت البنت أمَّا لعمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد.