الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
يحدثنا القرآن الكريم عن المعرفة وعن سبل كسبها. يذكر كتاب ربنا طريقتين لكسب المعرفة، فالأولى خاصة بعالم الشهادة الذي يدرك معارفه عن طريق الحواس والعقل، و الثانية خاصة بعالم الغيب الذي يدرك معارفه وتفاصيله عن طريق الوحي الرباني. جعل القرآن الكريم في عالم الشهادة السمع أو البصر أو العقل معيار المعرفة. قال الله تعالى: « وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» النحل: 78. تؤكد الآية الكريمة على أن الإنسان يولد لا يعلم شيئا عن الخير ولا عن الشر، ولا يملك قدرات معرفية، ولا مهارات فنية، وإنما يملك قابلية لكسب المعرفة. لعل من أكثر التساؤلات الوجودية هي: هل الإنسان خير بطبعه أم شرير؟ لقد تباينت أجوبة علماء الأخلاق والنفس عن طبيعة الإنسان. وأهمها مدرسة التحليلية التي ترى أن الإنسان مخلوق غير شريف، وأن نفسه شريرة بطبعها. وفي مقابل هذه النظرة التشاؤمية نظرة المدرسة السلوكية التي ترى أن نفس الإنسانية صفحة بيضاء، تكون حسب ما تمر به من تجارب وخبرات. وذهب علماء المسلمين إلى أن كل من الخير والشر أمرا أصيلا في فطرة الإنسان، وأن فيه استعدادا لقبول ما يطرأ عليه من الخير أوالشر، وميسر له ليتبع طريق الخير أو طريق الشر. إن الظروف الإجتماعية التي يعيش فيها الإنسان، وأن التربية والتعليم أو الإهمال والإستغلال هي التي تشكل شخصيته، وتزرع في نفسه بذور الخير أو الشر. قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» البخاري. يشير حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن الإنسان إذا نشأ في الأسرة الرحيمة، والبيئة الفاضلة، تنفجر فيه القيم السامية، والمبادئ الفاضلة، والخصال الحميدة. أما إذا نشأ الطفل في جو من التشدد والعنف والحرمان، فإن هذا التعامل يُوَلد لديه سلوك العدوانية في سبيل إظهار ذاته، أو يجعله يبحث عن أناس آخرين حيث يمكن أن يشعر بذاته ومكانته بينهم. وإلى هذا المعنى يشير النبي صلى الله عليه بقوله: «إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِي شَىْءٍ إِلاَّ زَانَهُ وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَىْءٍ إِلاَّ شَانَهُ» مسلم. يؤكد الحديث النبوي على أن الأسلوب الذي يعامل بها الإنسان يؤثر إيجابا أو سلبا على جسمه ونفسه وعقله. وتختلف مراتب النفس الإنسانية بحسب تجاوبها مع أنوار الوحي الربانية. فمنها من يستجيب للوحي، فتصفو ويتلألأ فيها أنوار الإيمان، ومنها من تعرض عنه، فتنصرف نحو الهوى، فيعكر صفوها ونور ايمانها. قال الله تعالى: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا» الشمس: 7- 9.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
معشر الإخوة والأخوات:
بعدما أن ذكر الله عز وجل الحالة التي يُولَد عليها الإنسان، بقوله: «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا» النحل: 78. أي عديم المعرفة الكافية لفهم المطلوب، ذكر الله عز جل آليات المعرفة بقوله: «وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ». تشير الآية الكريمة إلى أن بحاسة السمع تدرك معاني الأصوات ، وبالبصر تشكل هيئات الصور، وبالفؤاد تفهم معاني الأصوات والأشكال. بواسطة الحواس نتواصل مع محيطنا، ونستقبل المعلومات من حولنا، ونعرف ما يحدث حولنا. لذلك نجد أن الله عز وجل يأمر في القرآن الكريم استعمال حاسة السمع والبصر إما على سبيل الوجوب أو الندب أو النهي. ففي الأمر بالسماع مثلا قال الله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا ۗ» المائدة: 108. وفي النهي قال الله تعالى: « وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ » االنساء: 140. تُواصلنا الحاسة بالعالم الخارجي، وهي وسيلتنا لطلب العلم وتطوير المعارف، وهي الواسطة بين المعرفة والعقل. ناقش علماء المسلمين: أي حاسة أقوى من الأخرى في تحصيل المعرفة؟ قال ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه الرد على المنطقيين: “يحصل العلم بالسمع أكثر مما يحصل بالبصر، فالبصر أقوى وأكمل، والسمع أعم وأشمل، وهاتان الحستان هما الأصل في العلم بالمعلومات”. فللسمع صفة العموم والشمول، وللبصر صفة التمام والكمال. وقيل قُدم السمع على البصر في الآية لأنه يُدرَك به من الجهات الست، وفي النور والظملة، وأما البصر لا يدرك به إلا من جهة واحدة، وفي النور دون الظلمة. لقد أنعم الله تعالى على الإنسان، فجعله قادرا على إدراك المرئيات بالبصر، والأصوات بالسمع، والطعوم بالذوق، والروائح بالشم، والأجسام باللمس. فالمتأمل في آيات القرآن الكريم يجدها تدعوا إلى التثبت من كل ما نسمعه بآذاننا، ومن كل ما نراه بأعيننا، ومن كل ما نستقرأه بعقولنا. قال الله تعالى: «وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا» الإسراء: 36. يعلمنا القرآن على أن اكتساب المعرفة تكون عن طريقة السماع والملاحظة والمنطق، فلا نعطلها ولا نهملها، فنتبع الأوهام والأباطيل، وتصبح معرفتنا عبارة عن خرافات وأساطير. فالحواس أمانة علمية أودعها الله عز وجل لدى الإنسان، فيجب أن يسخرها في قرباته، وأن يستخدمها في مرضاته، ولا ينسى الإنسان أنه مسؤولا عن سمعه وبصره وفؤاده أمام الله سبحانه وتعالى.