الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
من يتأمل في واقع مجتمعات عالمنا اليوم، وينظر بنظرة موضوعية من حوله يرى الأنانية متغلغلة في وجدان المجتمعات الإنسانية. بسبب ما يراه تتوالى في مخيلته باستمرار أسئلة متعددة مثل: هل الإنسان أناني بطبعه أم اجتماعي؟ هل الأنانية صفة مكتسبة، أم هي طبيعة بشرية؟ هل نرى يوما يعود فيه الإنسان إلى طبيعته الإنسانية المحمودة قبل أن تلوثها الحضارة المادية؟ لهذه الأسئلة أجوبة متباينة، حيث يرى البعض أن الإنسان أناني بطبعه، واجتماعي بالتطبع، ويرى آخرون أن الإنسان إجتماعي بطبعه، وأناني بالتطبع. أما كتاب ربنا يؤكد على أن الله تعالى أودع في الإنسان قابلية حب الذات، كما أودع فيه قابيلة حب الآخرين. إن حب الذات مفهوم فطري، ووسيلة محمودة لحماية الذات، و تعزيز صورتنا الذاتية ، وحب الذات لا تعني من حيث المبدأ الأنانية، لكن حينما يُطلق الإنسان العِنان لهذه الغريزة، ولا يقيدها بالضوابط الأخلاقية التي أمر الله تعالى أن تتقيد بها، حينئذ ينتقل الإنسان من مفهوم حب الذات المحمودة إلى مفهوم الأنانية المذمومة. يقول الله تعالى: « وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ» القصص: 77. يصف الله تعالى الإنسان الأناني بما يلي. قال الله تعالى: «وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» المائدة: 62. من ضمن الأسئلة التي قد تُشغل فكر كل واحد منا هي، ما الذي يجعل الإنسان إنسانًا؟ من كتاب الله عز وجل نستنتج أن الإنسان يكون إنسانا بكل معنى الكلمة إذا توفرت فيه القيم الإنسانية التي تتسم بالرحمة والعدل والتسامح والإحسان والعفو. يقول الله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا» النساء: 58. ويقول تعالى: «وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» النور: 22.
إن القيم الإنسانية هي تلك المعايير النبيلة التي توجه سلوك الإنسان نحو الخير، أو هي تلك الفضائل التي تضبط سلوك الإنسان عندما يتفاعل مع أشخاص آخرين، فلا يغتصب حقوقهم، ولا ينتهك أعراضهم، ولا يسفك دمائهم، ولا يستحل أموالهم. تعد المبادئ والمعايير الأخلاقية أهم الأسس في بناء المجتمعات والدول، وهي تشكل المحور الأساسي لتحقيق السلام والأمن النفسي والإجتماعي والدولي. تحتاج المجتمعات الإنسانية إلى قيم الإنسان الإنساني لا إلى قيم الإنسان الأناني. إن الأنانية مشكلة يعاني منها الإنسان على مستوى الأسر والمجتمعات والدول. يصبح الإنسان أنانيا حينما يُغلب مصلحته على مصلحة الآخرين مهما كان الضرر الذي سيلحقه بهم. فالأنانية هي آفة نفسية تهدد استقرار الأسر والمجتمعات والدول. إن الأنانية سلوك مذموم في ديننا الحنيف، حيث تدفع الإنسانَ إلى الإستعلاء على أخيه الإنسان، وهي صفة مقرونة بالشيطان، حيث بسبب إستعلائه ادعى أنه خير من آدم عليه السلام. يقول الله تعالى: «قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ» الأعراف: 12. في مقابل قيمنا الإسلامية توجد فلسفات تجعل من الأنانية سلوكا مقبولا، وتعتبر أن تحقيق الغاية هي الدافع الإنساني الأساسي، وأن الغاية تبرر الوسيلة. فلا غرابة أن نرى مجتمعات ودول لا تمانع في إستعباد الآخرين وإذلالهم لتحقيق رغباتهم. حيث يزعم بعضهم أنهم ينتمون إلى العرق الآري الذي يفضل ويتميز عن غيره، أوأنهم أبناء النور بينما غيرهم أبناء الظلام. في مقابل هذه الأساطير يؤكد القرآن الكريم على وحدة أصل الإنسانية، وهي التراب والآدمية وسلالة الماء المهين. يقول الله تعالى: «ذَٰلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ» السجدة: 6 ـ 8. كما يؤكد القرآن الكريم أيضا على أن الأفضلية بين الناس ليست بالعرق، ولا بالجنس، ولا بالنسب، وإنما هي بالإعتقاد الصحيح، والسلوك الحسن، والمعاملات الراقية. يقول سبحانه وتعالى: « إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» الحجرات: 13. يقر ديننا الحنيف بمشروعية تحقيق الغاية لكل إنسان، بشرط أن تكون الغاية والوسيلة منضبطة بضوابط أخلاقية. ترتبط الوسائل بغاياتها ومقاصدها، فالغايات النبيلة، والمقاصد الشريفة لا تُقبل إلا إذا كانت وسائلها نبيلة ومشروعة. فعلى سبيل المثال لا يقبل عاقل من شخص غايته تحقيق الغنى، أن تكون وسيلته لذلك السرق والنهب. إنطلاقا من مبادئ إسلامنا أن الغاية لا تبرر الوسيلة. تنبذ قيمنا مثل هذه القواعد، التي تتعارض مع طبيعة الأخلاق التي تقوم على الصدق والأمانة والعدل والجمال. يعلمنا سيدنا محمد ﷺ في أحاديث متعددة تحقيق غاياتنا من خلال النية الصادقة والوسائل المنضبطة. في الواقع تعتبر عبارة ” الغاية تبرر الوسيلة” أحد القيم الإنسان الأناني، فهو يحاول بهذه العبارة وغيرها أن يبرر أنانيته، ويهدئ ضميره إذا حاول يوما أن يستيقظ خجلا من أفعاله الدنيئة. إن الأنانية انتكاسة لفطرة الإنسان، وهي تشكل أمراضا اجتماعية التي تستحق الدراسة والمعالجة.