الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
انشغل الإنسان قديما وحديثا بمسألة ثنائية الخير والشر في الطبيعة الإنسانية. كما اهتم أيضا بمعرفة مصدر الخير والشر. إن موضوع الخير والشر من المواضيع التي لها أثر على الفكر الإنساني. لقد تدرج المفهوم الإنساني للخير والشر انطلاقا من تطور فكره الديني أو الفلسفي. لقد تم تعريف الإنسان في فلسفة اليونان على أنه حيوان ناطق. فهل هذا يعني أن الإنسان في حالة معينة يتخلص من مسؤولياته ويتحول إلى مستئذب يسفك الدماء ويهتك الأعراض؟ لقد احتدم الجدل بين العلماء حول طبيعة الإنسان وفطرته، وبعبارة أخرى هل الإنسان في أصله خير أم شر أم أنه يولد صفحة بيضاء تنقش عليها خصائص سلوكه بسبب تفاعله مع المجتمع؟ وهل الأخلاق تأتي بالفطرة الإنسانية، أم أنها مكتسبة، بفعل عوامل التربية والإجتماعية؟ الأجوبة حول هذه المسائل متباينة، بحكم تأثر كل مفكر بمرجعيته، وبثقافة مجتمعه.
يرى فريق من العلماء أن الإنسان مجبول على الخير، وأن العوامل الإجتماعية هي التي تساهم في تكوين شخصية الفرد، وتدفعه إلى النزوع تجاه الخير أو الشر. مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» البخاري.
في حين ذهب فريق ثاني إلى أن الإنسان في أصله ميال إلى الشر، وقد قال الشاعر اللبناني: الخَــيـرُ فـي النـاسِ مَـصـنـوعٌ إِذا جُـبـرُوا … وَالشـرُّ فـي النـاسِ لا يَـفـنـى وَإِن قُبرُوا. يتبين من هذا البيت الشعري أن الإنسان لا يقوم بالخير إلا عندما يبتغي من وراء ذلك مصلحة ما. حيث نرى أن الإنسان المعاصر، المتحضر حسب زعمه، يغرد بالحرية، وينادي بحقوق الإنسان والدمقراطية، وفي نفس الوقت يساند الذين ينتهكون حقوق الإنسان، ويناصر الدكتاتورية والإستبداد في البلدان التي تربطه بها علاقات اقتصادية. يفضي هذا العمل إلى نتيجة مفاده أن الإنسان قريب من الشر أكثر منه إلى الخير، وما الخير الذي يظهره إلا من أجل اكتساب مصالحه. يعبر عن هذا أيضا موقف الملائكة في قوله تعالى: «قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ » البقرة: 30. الظاهر أن الملائكة كانت تعلم ظاهرة الإنسان الشريرة، وكانت تخفى عنها سرائره الخيرية. حيث رد الله عليهم بقوله تعالى: « قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ » البقرة: 30. أي أن الله تعالى يعلم ظواهر وسرائر الأنسان؛ الخيرية منها والشريرة. فالناظر في الشرور المنتشرة في العالم اليوم – من استعمار وتسلط وتعذيب وتشريد وقتل واعتصاب وانتهاك للحريات وحقوق الإنسان- ألا يستنتج أن الشر متأصل في الإنسان، وأن طبعه الأناني يدفعه إلى فعل الشر.
لا تيأسوا بجانب هذين المفهومين حول طبيعة الإنسان وفطرته يوجد مفهوم ثالث؛ مفاده أن طبيعة الإنسان مزيج من الخير والشر، وأن في داخل نفس البشرية يكمن خير وشر. تنازع نفس الإنسان قوى الخير و الشر، وقوى النور والظلمة، وقوى الحق والباطل. إن حالة النفس البشرية في صراع دائم مع ذاتها للتغلب على شرورها. إذا كان الإنسان تنازعه قوى الخير وقوى الشر فلمن تكون الغلبة يا ترى؟
ان الحياة قائمة على التزاوج بين الأضداد، ولولا هذا التزاوج لانقرضت الحياة، وأن كل موجود مادي يحتوي على مادة ومادة مضادة. تتزاوج الحياة بين اللطافة والقسوة، وبين الصحة والمرض، وبين الغنى والفقر، وبين الحياة والموت. نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى: «وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» الذاريات: 49. يتزاوج جسم الإنسان بين الحياة والموت؛ حيث تموت في لحظة واحدة آلاف الخلايا من جسم الإنسان، وتحيا آلاف أخرى. المتأمل في الحياة يجدها أنها تحتوي على مظاهر تعكس الصفات الجلالية، وأخرى تعكس الصفات الجمالية. تتضمن الصفات الجلالية القسوة والمرض، والفقر، والموت، كما تتضمن الصفات الجمالية المتعة بالحياة، والصحة، واللطافة، والغنى. في هذا السياق يطرح سؤال نفسه: هل كل ما نصفه بالشر هو شر حقا، وكل ما نصفه بالخير هو خير؟ في الواقع لا يوجد إنسان يكون خيراً محضاً , ولا إنسان يكون شرا محضاً، حتى الطاغي في الظلم والفجور يجتمع فيه الخير والشر. «وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ» الأنبياء: 35. وفي حديث للنبي صلى الله عليه وسلم: «شَرُّ مَا فِي رَجُلٍ شُحٌّ هَالِعٌ وَجُبْنٌ خَالِعٌ» أبو داود.
حتى في قصة جريمة القتل التي ارتكبها ابن آدم قابيل في قتل أخيه هابيل تجد بعض صفات الخير. فلما ارتكب قابيل جريمة القتل، تحركت فيه بذرة الخير، فندم على فعلته الفظيعة، ثم بدأ يفكر كيف يحمي جثة أخيه من الطيور والسباع التي تنتظر متى يُرمي به فتأكله، مازال قابيل غارقا في تفكيره وسط الصحراء يبحث عن حل لمعضلته، حتى بعث الله له غرابا يعلمه كيف يحمي كرامة جسد أخيه بعدما أن انتهك كرامته وحرمه من حقه في الحياة. « فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ، فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ. فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ۚ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي ۖ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ » المائدة: 30-31.