الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
جاء ديننا الإسلامي بما فيه الصلاح والخير للناس في الدنيا والآخرة. وإن شريعة الإسلام مبنية في أساسها على جلب المصالح ودرء المفاسد. تعد المصلحة من الدوافع التحفيزية المهمة للنشاط الإنساني في شتى مجالات الحياة. فكل ما يسعى إليه الإنسان لتحقيقه يرجع في حقيقة الأمر إلى دافع المصلحة، سواء كانت مصلحة مادية أو معنوية، دنيوية أو أخروية. اهتم الإسلام بتنظيم حياة الناس الدينية والدنيوية على السواء: فهو نظام مدني وروحي. اشتمل التشريع الإسلامي على الأحكام التي لها صلة بالعقائد والعبادات والمعاملات. فلا تنفك واحدة منها عن الأخرى. انتقل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحياة ولم يترك فقها مدونا، ولكن ترك جملة من الأصول والقواعد الكلية المنتشرة في كتاب الله تعالى وسنته. ومن هذه الأصول مراعاة المصلحة. في هذا السياق قال ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى: «إن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها. فكلّ مسألة خرجت عن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العَبَث، فليست من الشريعة». من يستقرئ آيات القرآن الكريم يتبين له مدى مراعاته لمصالح العباد، وأنه وضع من أجل ذلك الأحكام الأساسية، والمبادئ العامة اجمالا وتفصيلا. يأمر القرآن الكريم في كثير من آياته بشيء مبينا مصلحته، كقوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ» البقرة: 282. وينهى عن شيء مبينا المفسدة المترتبة عليه، كقوله تعالى: «وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ»الأنعام: 108. تنقسم المصلحة من حيث اعتبار الشارع لها إلى المصلحة المعتبرة، والمصلحة الملغاة، والمصلحة المرسلة. المصلحة المعتبرة هي المصلحة التي شهد الشرع باعتبارها، وقام الدليل على رعايتها. مثل قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ» البقرة: 282. حرص القرآن الكريم على توثيق الديون للحفاظ على المصالح الناتجة عنه. حيث إن التوثيق صيانة للحقوق من أن تكون عرضة للإنكار، وحماية من المنازعة بين المتعاملين. قسم العلماء المصلحة المعتبرة من حيث قوتها إلى المصلحة الضرورية والحاجية والتحسينية. أما المصلحة الضرورية فقد عرفها الإمام الشاطبي بأنها التي لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا. وقد لخصت في حفظ الدين، والنفس، والعقل، والمال، والنسل. والمصلحة الحاجية هي التي يُفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة. يدخل تحت المصلحة الحاجية البيوع والإجارات، والزواج والرخص. وأما المصلحة التحسينية فقد عرفها بإنها الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق؛ كإزالة النجاسة، وستر العورة، والتقرب الى الله تعالى بنوافل العبادات. والمصلحة الملغاة هي المصلحة التي ورد النص على بطلانها. كالمصلحة الموجودة في الخمر والميسر، ولكن ضررها أعضم من نفعها. قال الله تعالى: « يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا» البقرة: 219. والمصلحة المرسلة هي المصلحة المطلقة، وهي التي لم يشهد لها القرآن ولا السنة بالإعتبار ولا بالإلغاء، ولكنها محققة لمقصود الشارع. مثل مصلحة حفظ القرآن الكريم من الضياع التي جعلت سيدنا عمر يطلب من سيدنا أبي بكر الصديق بجمع القرآن الكريم في المصحف، فهذه مصلحة لم يرد فيها نص على اعتبارها أو إلغائها، ولكنها محققة لمقصود الشارع، فجمع القرآن الكريم حفظ للمرجعية والهوية الدينية. جعلت المصلحة سيدنا عثمان يجمع المسلمين على مصحف واحد. كما حفزت المصلحة سيدنا عليًّا ليأمر أبا الأسود الدؤلي بوضع علامات وحركات لضبط الأحرف حتى يحفظ القرآن الكريم من اللحن والتحريف في المعنى ويقرأ بشكل صحيح كما أنزله الله تعالى على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.