الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
كلما أهلّ علينا شهر ربيع الأول هبت علينا نسمات ولطائف مولد أعظم شخصية في الوجود. ما أعظمها من مناسبة كريمة، وهي شخصية محمد صلى الله عليه وسلم الذي اصطفاه الله تعالى من خلقه، وأرسله رحمة للعالمين. وذكرى مولده صلى الله عليه وسلم علامة مضيئة في تاريخ أمتنا الإسلامية، وبداية لعهد جديد: من إقامة العدل بين الناس، ونشر الفضيلة بينهم، ورفع الظلم والطغيان على المستضعفين. سعد الناس بمولد هذا النبي العظيم، واستقبل جده عبد المطلب خبر مولده صلى الله عليه وسلم بالفرح والسرور، وسماه محمدا ليكون محمودا بين أهل الأرض، ودخل به الكعبة، وقام يدعوا الله ويشكره على الموهوب الذي يشم فيه رائحة ابنه عبد الله. كما نالت حليمة السعدية شرف الرضاعة، وفازت ببركته صلى الله عليه وسلم. خرجت حليمة من بني سعد مع مجموعة من الرجال والنساء قاصدين مكة باحثين عن الرضعاء. خرجت حليمة وهي تشكوا الفقر على بهيمة ضعيفة تتأخر على الركب. فما من امرأة إلا وقد عرض عليها محمد صلى الله وسلم، فتأباه إذا قيل لها أنه يتيم، وذلك كان المرضعات يرجون المعروف من أبي الصبي. قالت حليمة: « فَكُنَّا نَقُولُ : يَتِيمٌ وَمَا عَسَى أَنْ تَصْنَعَ أُمُّهُ وَجَدُّهُ فَكُنَّا نَكْرَهُهُ لِذَلِكَ ، فَمَا بَقِيَتْ امْرَأَةٌ قَدِمَتْ مَعِي إلَّا أَخَذَتْ رَضِيعًا غَيْرِي ، فَلَمَّا أَجْمَعْنَا الِانْطِلَاقَ قُلْتُ لِصَاحِبِي : وَاَللَّهِ إنِّي لَأَكْرَهُ أَنْ أَرْجِعَ مِنْ بَيْنِ صَوَاحِبِي وَلَمْ آخُذْ رَضِيعًا ، وَاَللَّهِ لَأَذْهَبَنَّ إلَى ذَلِكَ الْيَتِيمِ فَلَآخُذَنَّهُ ، قَالَ : لَا عَلَيْكِ أَنْ تَفْعَلِي ، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا فِيهِ بَرَكَةً» فلما أخذت حليمة محمدا صلى الله عليه وسلم امتلأ ثديها لبنا، فأرضعت محمدا صلى الله عليه وسلم وأخيه من الرضاعة حتى شبعا، وجعل الله البركة في الشارف، فحلبها زوجها فشرب وشربت هي الأخرى، وباتا بخير ليلة. وفي الرجوع الى بني سعد أصبحت أتانها الضعيفة الهزيلة أسرع الحمر وأسبقها. فقضى صلى الله عليه وسلم أربع سنوات من طفولته في بني سعد، وفيها وقعت له حادثة شق الصدر، حيث بدأ الله سبحانه وتعالى تهيئته للنبوة منذ طفولته.
اننا في حاجة ماسة لدراسة شخصية النبي صلى الله عليه وسلم دراسة مستفيظة، لنعرف جوانبها الإنسانية والربانية ، وما أكثر الجوانب التي يمكن أن نقف عندها لنعرف عظمة الشخصية المحمدية. فإذا أخذنا الجانب الرباني من سيرته وحياته صلى الله عليه وسلم: فمن الجانب التعبد لله تبارك وتعالى: صلاة، وصياما، وتسبيحا، وتهليلا، وتكبيرا، ودعاء، واستغفارا، نجد قلبا نابضا بحب الله تبارك وتعالى، ولسانا رطبا بذكر الله تعالى، يذكر الله في كل أحواله، وعلى كل أحيانه. نجد قلبا مطمئنا ساكنا، بعيدا عن كل قلق أو اضطراب نفسي. ومن الجانب السلوكي يصف لنا سيدنا علي النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: « كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , دَائِمَ الْبِشْرِ ، سَهْلَ الْخُلُقِ ، لَيِّنَ الْجَانِبِ ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلا غَلِيظٍ ، وَلا صَخَّابٍ وَلا فَحَّاشٍ ، وَلا عَيَّابٍ وَلا مُشَاحٍ ، يَتَغَافَلُ عَمَّا لا يَشْتَهِي ، وَلا يُؤْيِسُ مِنْهُ رَاجِيهِ وَلا يُخَيَّبُ فِيهِ ، قَدْ تَرَكَ نَفْسَهُ مِنْ ثَلاثٍ : الْمِرَاءِ , وَالإِكْثَارِ , وَمَا لا يَعْنِيهِ ، وَتَرَكَ النَّاسَ مِنْ ثَلاثٍ : كَانَ لا يَذُمُّ أَحَدًا , وَلا يَعِيبُهُ ، وَلا يَطْلُبُ عَوْرتَهُ ، وَلا يَتَكَلَّمُ إِلا فِيمَا رَجَا ثَوَابَهُ ، وَإِذَا تَكَلَّمَ أَطْرَقَ جُلَسَاؤُهُ ، كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرُ ، فَإِذَا سَكَتَ تَكَلَّمُوا لا يَتَنَازَعُونَ عِنْدَهُ الْحَدِيثَ ، وَمَنْ تَكَلَّمَ عِنْدَهُ أَنْصَتُوا لَهُ حَتَّى يَفْرُغَ ، حَدِيثُهُمْ عِنْدَهُ حَدِيثُ أَوَّلِهِمْ ، يَضْحَكُ مِمَّا يَضْحَكُونَ مِنْهُ ، وَيَتَعَجَّبُ مِمَّا يَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ ، وَيَصْبِرُ لِلْغَرِيبِ عَلَى الْجَفْوَةِ فِي مَنْطِقِهِ وَمَسْأَلَتِهِ …………. » الشمائل المحمدية للترمذي.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
معشر الإخوة والأخوات:
لقد وصف الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالرحمة قال تعالى: « وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ» الأنبياء 107. واذا تأملنا واقع الناس نجد ان هناك مواطن يفقد فيها الرحماء رحمتهم. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفارقه رحمته ، يُؤذى ويُضرب ويُضطهد فيقول : «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون». ويوم فتح مكة وقد فعلت به قريش ما فعلت، وكان موقفه غير المتوقع. قال سيدنا عمر رضي الله عنه: لما كان يوم الفتح ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة أرسل إلى صفوان بن أمية وإلى أبي سفيان بن حرب وإلى الحارث بن هشام. فقلت :لقد أمكن الله منهم لأعرفنهم بما صنعوا حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مثلي ومثلكم كما قال يوسف لإخوته »: لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ 92. رآى أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: « أأنت الذي تقول عنه قريش إنه كذاب؟ والله ما هذا الوجه وجه كذاب! وأسلم إذ دعاه النبي صلى الله عليه وسلم». و يصفه الله سبحانه وتعالى بقوله : فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ 159 آل عمران