الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
تعتبر القيم والمبادئ من أسس الإستقرار والتنمية في المجتمعات الإنسانية، لا تؤتي ثمارها، ولا تظهر آثارها الإجابية إلا إذا كانت وفق إطار يضمن لجميع الناس حقهم في المساواة. المساواة مبدأ يتساوى فيه جميع الناس في الكرامة والحقوق. إن القيم هي المعاني المعنوية ذات الأهمية الكبيرة لدى الإنسان والمؤثرة في سلوكه وقراراته[1]. ومما يجب القبول به هو وجود اختلاف هام بين القيم الإسلامية والقيم الغربية من حيث التجسيد العملي، وهو اختلاف طبيعي، ويؤكد هذا الخلاف أن العالم ليس فيه حضارة واحدة، ولا ثقافة واحدة، وإنما يقوم على حضارات متعددة، كما يقوم على تعددية الشعوب والقوميات والديانات. تعد مسألة القيم من أقدم الإشكاليات التي يثير حولها الجدل بين مختلف الإتجاهات الفكرية، وإن كانوا يتفقون عن معظم القيم العامة، لكنهم يختلفون عن مصدرها ومفهومها وضوابطها. تعددت أراء المفكرين حول مصدر القيم، فمنهم يرى أن المجتمع بعاداته وأعرافه هو أساس للقيم، ومنهم من يرى أن العقل بقدراته وطاقاته، ومنهم من يرى أن الضمير الإنساني بعواطفه وانفعالاته هو المصدر الأساسي للقيم، بينما يرى المسلمون أن القرآن الكريم هو المصدر الأساسي للقيم، وأنه أعلى وأحسن من هذه المصادر البشرية دقة وعدلا ورحمة وشمولا وإنسانية. انطلاقا من قوله تعالى: «إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا» الإسراء: 9. تنطلق النظرة الإسلامية للقيم من منطلق الإسلام الذي يربط الإنسان بخالقه، وأنه خليفة الله في الأرض، وأن ليس للإنسان إلا السعي لعمارة الأرض وفق منهج الله تعالى. انطلاقا من قوله تعالى: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» البقرة: 30. تتفق معظم الحضارات الإنسانية على مجموعة من القيم من حيث المبدأ، ويختلفون حولها من حيث التفصيل. وهنا قد يتولّد صراع حقيقي بين قيم حكمت سيطرتها على العالم، وأخرى استُلب منها إرادة التدبير انطلاقا من هويتها وقناعتها.
الملفت للنظر أن العالم الجديد المتعدد الحضارات والثقافات يختلف مفهومه للقيم باختلاف مرجعية كل حضارة أو ثقافة. ويمكن تصنيف مستوى الجدل حول مفهوم القيم وتأصيلها إلى نوعين: المستوى الداخلي والمستوى الخارجي. ابتداء بالمستوى الداخلي: نلاحظ داخل الحضارة الواحدة صراع حاد حول مفهوم القيم بين أبنائها. ومن المؤسف أن نرى أن هذه الصراعات كثيرا ما تؤدي إلى المزيد من الشقاق والدمار، وعواقب كارثية. إن الإختلاف طبيعة بشرية، وسنة اجتماعية، ولا يمكن جمع الناس على فكرة واحدة، وفهم واحد. يقول الله تعالى: « وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ 118 إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ» هود. يتفاوت الناس في عقولهم ومداركهم، ويختلفون في مراجعهم الدينية والفلسفية والبيئية. قال بعض علماء الاجتماع: «إن كل فكر يختلف عن الفكر الآخر باختلاف المنشأ والعادة والعلم والغاية، وهذا الاختلاف طبيعي في الناس، وما كانوا قط متفقين في مسائل الدين والدنيا[1]». إن ثقافتنا الدينية والسياسية السائدة متشبعة في طرحها الطائفي، بما يؤدي إلى تشتيت شمل المسلمين، وشق وحدة أبناء الوطن الواحد من مختلف الأطراف. يجب علينا أن نضع حدا لهذه المظاهر السيئة التي نشاهدها من بغضاء المسلم للمسلم، وعداء أبناء الوطن الواحد بعضهم لبعض. يجب أن نصون وحدة واستقرار مجتمعاتنا بثقافة الحوار والإنفتاح والمساواة. ياليتنا نستمع لنداء الرحمن: «لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» المائدة: 48. ولقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ .وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» ال عمران: 102- 103.
[1] الجرح والتعديل للشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي
[1] القيم الحضارية عبيد سليمان.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
معشر الإخوة والأخوات:
تدعو هذه الآية الربانية إلى نبذ الفُرقة والخلاف الديني الذي يقود إلى الصراع المذموم، والتمسك بالوحدة التي طبقها النبي صلى الله عليه وسلم في واقعه ومحيطه. ينطلق الحوار من قواعد منطقية محكمة، ومن اتخاذ الأسلوب المناسب، والموعظة الحسنة وسيلة لترسيخ قيم الحرية والعدالة، وتعزيز مبادئ الدمقراطية والشورى في مجتمعاتنا. يقول الله تعالى: «وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ 33 وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» فصلت. يسود العالم اليوم والمسلمين خاصة القلق والتوتر والصراعات السياسية والفقهية التي قد نتج عنها اختلال أمنهم واستقرارهم. للخروج من هذه الأزمة التي تحيط بالعالم يجب الرجوع إلى قيم التسامح والحرية والمساواة، والعمل المشترك لبناء مجتمع تسوده مبادئ المسؤولية والإحترام المتبادل بين أفراده. يقول الله تعالى: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ» المائدة: 2. والمستوى الثاني من صراع القيم: هو صراع بين مختلف الحضارات على مفهموم وضوابط القيم. إذا أخذنا على سبيل المثال الحرية، فكل حضارة ترى أن الحرية قيمة من القيم الكبرى التي يجب أن تحكم وعي الإنسان، وتحدد تصرفاته. إن الشعور بالحرية تمكن الإنسان بالشعور بالكرامة، وتجعله مواطنا مشاركا وفعالا في صناعة مستقبله، وتطوير مجتمعه. إن مفهوم الحرية مرتبط بحضارة كل مجتمع، وبما أن للناس حضارات مخلفة فلابد أن يكون لكل مجتمع مفهوما خاص للحرية باختلاف منطلقاتهم الحضارية والثقافية. تحاول القوة المتسلطة من تجريد مفهوم الحرية عن سياقه الثقافي والديني، واعطائه محتوى أخلاقيا إيجابيا، لكنها في الوقت نفسه تقيد هذا المفهوم بمرجعيتها الفلسفية والسياسية، وسلبت الحق للمرجعيات الأخرى في وضع مفهوما للحرية. يقدم رواد هذا المفهوم الأخلاقي للحرية بطريقة تؤدي إلى تبرير هيمنتهم على باقي مفاهيم الأخرى للحرية. وقس على هذا المثال باقي القيم الحضارية. قال سيدنا عمر رضي الله عنه: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم أحرار».
الجرح والتعديل للشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي
الحوار بين الفرق والمذاهب الإسلامية للدكتور محمد بن صالح العلي
نحو فلسفة القيم الحضاريّة للشيخ شفيق جرادي
القيم بين الإسلام والغرب للدكتور مانع بن محمد بن علي المانع