الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله،«واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
شرع الله تعالى أحكاما وعقائد وعبادات، ينظم بها الإنسان علاقته بنفسه وبربه، وعلاقته أيضا بأخيه الإنسان والكون. إن أحكام ديننا الحنيف تدور مع عللها وجودا وعدما، وترتبط بتحقيق أهدافها ومقاصدها، وإن من المقاصد الإسلامية التي تتميز بها أحكام الشريعة رفع الحرج عن المكلفين. قال الله تعالى:وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍالحج: 78. وتتغير أحكام الشرع الحكيم بالنظر إلى اختلاف الأحوال والظروف والأزمنة والأمكنة، كما تغلب عليها المرونة والسعة، ويمكن ملاحظة هذه المرونة من خلال ما تتميز به هذه الأحكام والشعائر من يسر وتخفيف ورحمة ومصلحة، وأنها تخاطب العقل والقلب. ومن مظاهر رعاية الشريعة الإسلامية لأحوال الناس تقسيم أحكامها إلى عزيمة ورخصة. فالعزيمة كما عرفها الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى: هي ما شرع من الأحكام الكلية ابتداء. ومعنى كونها كلية: أنها لا تختص ببعض الناس دون بعض، ولا ببعض الحوال دون بعض،كالصلاة مثلا: فإنها مشروعة على الإطلاق والعموم على كل الناس، وفي كل الأحوال، وكذلك الصيام والزكاة والحج وسائر شعائر الإسلام الكلية، ومعنى كونها ابتداء: أي أنها لم يسبق لها حكم شرعي آخر قبل ذلك. والعمل بالعزيمة واجب على المكلف بشرط أن لا يكون في ذلك مضرة عليه، ويجوز ترك العمل بالعزيمة، والأخذ بالرخصة إذا وجد العذر الشرعي. إن مقصود الشارع من مشروعية الرخصة الرفق بالمكلف عن تحمل المشاق، ومن رحمة الله تعالى بعباده أنه لا يكلفهم فوق ما يطيقون، وأن إقامة الصلاة وصيام شهر رمضان وغير ذلك من الشعائر الإسلامية ليست عقوبة لنا، وإنما هي غذاء لأرواحنا. قال الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ الرعد: 28. وقال تعالى أيضا: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَالبقرة: .185
والرخصة: «هي ما شرع لعذر شاق، استثناءً من أصل كلي يقتضي المنعَ مع الإقتصار على مواضع الحاجة فيه» الموافقات. نستطيع أن نستخلص من هذا التعريف ثلاثة ضوابط للرخصة: الضابط الأول هو العذر، والعذر هو السبب الذي أبيح القصر أو الفطر من أجله. يتبين من هذا الضابط أن الرخص ليست بمشروعة ابتداء، بمعنى أن الأصل في الصلاة مثلا الإتمام لا القصر، واقامة كل صلاة في وقتها لا جمعها، إلا إذا وجدت الحالة الطارئة التي تبيح القصر أو الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء. والضابط الثاني هي المشقة: وهي ضابط العذر الذي يبيح الأخذ بالرخصة، وذلك أن من لا يقدر على الصلاة قائما أو يقدر بمشقة، صلى جالسا. والضابط الثالث هو موضع الحاجة: بمعنى أن شرعية الرخص جزئية يُقتصر فيها على موضع الحاجة، فإن المريض إذا قدر على القيام في الصلاة لم يصل قاعدا، وإذا قدر على استعمال الماء لم يتيمم. إن الرخصة حكم طارئ شرعها الله تعالى بناء على أعذار الناس؛ رعاية لمصالحهم، ودفعا للمشقة غير العادية عنهم، وحكم الرخصة الإباحة مطلقا. قال تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًاالنساء: 101. إن أصل الرخصة هو رفع الحرج عن المكلف، حتى يكون من ثقل التكليف في سعة واختيار بين الأخذ بالعزيمة والأخذ بالرخصة، ويؤكد على هذا المعنى حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ فَمَا يُعَابُ عَلَى الصَّائِمِ صَوْمُهُ وَلاَ عَلَى الْمُفْطِرِ إِفْطَارُهُ » مسلم. ولا يصح لمن يشتغل أو يدرس خارج مدينته و هو يقوى على أداء صلاته على وجهها الأكمل بدون مشقة أن يقصر صلاته. لأن إذا جاز له القصر، جاز له أيضا عدم الصيام، وسقطت عنه صلاة الجمعة، فيعيش ربما طيلة حياته مقصرا للصلاة، ومفطرا لرمضان، وضائعا لصلاة الجمعة. إن هذا القول لا يقول به من درس علوم الفقه، وفهم مقصد الرخصة من خلال كتاب الله تعالى، وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأفهام جمهور علماء المسلمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
لقد اتفق علماء المسلمين بالأخذ بالرخصة في مواضع الحاجة رفعا للحرج، ودفعا للمشقة، ولكن اختلفوا في الترجيح بين العزيمة والرخصة، وسبب خلافهم راجع إلى تحديد علة الرخصة، فالذين رجحوا الأخذ بالعزيمة حددوا العلة في نفس المشقة، فإذا انتفت المشقة المعتبرة فاتمام الصلاة والصيام أولى. وأما الذين رجحوا الرخصة، حددوا العلة في مظنة المشقة في السفر، فقالوا برخصة القصر والإفطار مطلقا سواء وجدت المشقة في ذلك السفر أم لم توجد. والواقع أن أحيانا يكون الأخذ بالعزيمة أولى من الرخصة، وأحيانا يكون الأخذ بالرخصة أولى، حسب اختلاف الأحوال والأزمان، وبحسبب قوة المكلف وضعفه، فليس سفر الإنسان راكبا في رفقة مأمونة، وأرض مأمونة، كالسفر راجلا وخائفا في الفطر والقصر، وكذلك الصبر على شدائد السفر ومشقاته يختلف باختلاف احوال المكلفين، فرب رجل قوي صحيح يقطع كل يوم مسافة القصر حتى صار له ذلك عادة، يقوى على أداء عبادته على وجهها الأكمل بدون أي حرج ولا مشقة، فاتمام الصلاة والصيام في هذه الحالة أولى في حقه، ورب رجل ضعيف مريض يشق عليه اتمام الصلاة والصيام في السفر، فقصر الصلاة والفطر أولى له. فمشقة العبادة قد تكون معتادة لبعض الناس، وقد تكون غير معتادة في حق البعض الآخر، وكثير من الناس من يقوى في مرضه على ما لا يقوى عليه الآخر، فتكون الرخصة مشروعة بالنسبة إلى أحدهم دون الآخر.عن جابر بن عبد الله قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَرَأَى زِحَامًا وَرَجُلا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا ؟ فَقَالُوا: صَائِمٌ.فَقَالَ:لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ» البخاري . فالحديث وارد في الذي يجهد نفسه ويتعبها بالطاعة، ويجب حمل هذا الحديث على خصوصه لا على عمومه، فالمشقة تجلب التيسير كما هو معلوم في الفقه الإسلامي. وفي هذا السياق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:»إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ«أحمد.