الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
يَمُرُّ قِطارُ الحياةِ الدنيا سريعاً من محطة إلى أخرى، ناس يركبون وآخرون يغادرون، فعما قريب سيطوي كل واحد منا تلو الآخر صفحة الأيام، ويمضي إلى حياة غير هذه الحياة، وإالى دار غير هذه الدار، والكل يعلمُ جيداً أنَّه مهما طال عمره، سوف تأتي عليه مرحلة الإنتقال إلى حياة جديدة تختلف اختلافا كليا عن حياة الأولى، وهي حياة البرزخ، والكل على هذا الدرب يسير مهما حاول أن يتناسى. إن الموت لا يستأذن صغيرا ولا كبيرا، فقيرا ولا غنيا، حاكما ولا محكوما، «فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ» النحل: 61. سمع النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة رضي الله عنها تدعوا بهذا الدعاء: « اللَّهُمَّ مَتِّعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ، وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّكِ سَأَلْتِ اللَّهَ لآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ، وَآثَارٍ مَوْطُوءَةٍ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لاَ يُعَجِّلُ شَيْئًا مِنْهَا قَبْلَ حِلِّهِ، وَلاَ يُؤَخِّرُ مِنْهَا شَيْئًا بَعْدَ حِلِّهِ، وَلَوْ سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ وَعَذَابٍ فِي الْقَبْرِ لَكَانَ خَيْرًا لَكِ» مسلم. إن حياة الدنيا وإن طالت فهي حتما إلى الفناء صائرة، ومتاعها إلى الزوال ماض، فالحياة أشبه بالقطار السريع الذي يمر كالبرق. إن الموت ينقل العباد من دار الدنيا إلى دار البرزخ، فيبقون فيها إلى يوم البعث. وهو كما أخبر الحق بذلك وهو أصدق المخبرين فى قوله تعالى: « حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ 99 لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ 100» المومنون. تختلف أحوال الناس في قبورهم بحسب ما قدموه من الأعمال الصالحة في حياتهم. يابشرى من تزود من الأعمال ما يؤنس به وحشته، ويرقى به في منازل السعداء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ فِي قَبْرِهِ لَفِي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ ، وَيُرْحَبُ لَهُ قَبْرُهُ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَيُنَوَّرُ لَهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ» صحيح ابن حبان. إذا بلَغ الأجَل الذي قُدِّر لكلِّ عبد واستوفاه، جاء ملك الموكَّل بقبْضِ الأرواح فاستدْعَى الرُّوح، فإن كانت روحًا مؤمنة صالحة نداها بقوله: «أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ ٱخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ ٱللّهِ وَرِضْوَانٍ. فَتَخْرُجُ فَتَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السقَاءِ» أحمد. فتُوضع في كفَن وحَنوط ٍ من الجّنة، ثم يُعرَج بها إلى خالقها سبحانه وتعالى، «فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ، وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى» أحمد. وقال الله تعالى:« الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ ۙ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ » النحل :32.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
معشر الإخوة والأخوات:
إن حياة البرزخ من الأمور الغيب التي لا تخضع للعقل بل تخضع فقط للخبر الصحيح الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو أن الإنسان مات في البر، أو الجو، أو البحر، أو حرقاً فأصبح رميما، فمصيره إلى الله سبحانه، ولن ينجو من محاسبتة له، وعن حياة البرزخ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمَيِّتَ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ حِينَ يُوَلُّونَ عَنْهُ مُدْبِرِينَ، فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا، كَانَتِ الصَّلاةُ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَكَانَ الصِّيَامُ عَنْ يَمِينِهِ، وَكَانَتِ الزَّكَاةُ عَنْ يَسَارِهِ، وَكَانَ فِعْلُ الْخَيْرَاتِ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَالْمَعْرُوفِ، وَالإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، فَيُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، فَتَقُولُ الصَّلاةُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ. ثُمَّ يُؤْتَى عَنْ يَمِينِهِ، فَيَقُولُ الصِّيَامُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى عَنْ يَسَارِهِ، فَتَقُولُ الزَّكَاةُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ، فَيَقُولُ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَالصَّلاةِ، وَالْمَعْرُوفِ، وَالإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، فَيُقَالُ لَهُ: اجْلِسْ، فَيَجْلِسُ، قَدْ مُثِّلَتْ لَهُ الشَّمْسُ قَدْ مَثُلَتْ لِلْغُرُوبِ، فَيُقَالُ لَهُ: أَخْبِرْنَا عَمَّا نَسْأَلُكَ عَنْهُ؟ قَالَ: فَيَقُولُ: دَعُونِي أُصَلِّي، قَالُوا: إِنَّكَ سَتَفْعَلُ، أَخْبِرْنَا عَمَّا نَسْأَلُكَ عَنْهُ، قَالَ: وَمَا تَسْأَلُونَ؟ قَالَ: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ فِيكُمْ، مَا تَقُولُ فِيهِ؟ وَمَاذَا تَشْهَدُ بِهِ عَلَيْهِ؟ قَالَ: أَمُحَمَّدٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَيُقَالُ لَهُ: عَلَى ذَلِكَ حَيِيتَ وَعَلَى ذَلِكَ مِتَّ، وَعَلَى ذَلِكَ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: ذَلِكَ مَقْعَدُكَ مِنْهَا، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ فِيهَا، فَيَزْدَادُ غِبْطَةً وَسُرُورًا، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ، فَيُقَالُ لَهُ: ذَلِكَ مَقْعَدُكَ مِنْهَا وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ فِيهَا لَوْ عَصَيْتَهُ، فَيَزْدَادُ غِبْطَةً وَسُرُورًا، ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وِيُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ، وَيُجْعَلُ نَسَمَتُهُ فِي النَّسِيمِ الطِّيبِ، وَهُوَ طَائِرٌ أَخْضَرُ، تَعْلُقُ بِشَجَرِ الْجَنَّةِ، وَيُعَادُ الْجَسَدُ لِمَا بَدَأَ مِنْهُ مِنَ التُّرَابِ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ، وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ، وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ» ابراهيم: 27. صحيح ابن حبان.