الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، وبها ترفع الدرجات، وبها يرتقي الإنسان عن الهفوات، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
إِن المؤمن الفطن اللبيب يأخذ من الأَحداث العبر والعظات، ويستفيد منها في حياته اليومية. إنّ دراسة السيرة النبوية، والتأَمل فيما فيها من أحداث، هي بمثابة منارة، تهدي السَّائر الى الله تعالى إلى معرفة الحق، وتبصره بروح التشريع الإسلامي، وتعينه على إصلاح حالهم، وتحقيق آمالهم. فالله عزّ وجلّ يقص في القرآن الكرِيم أَحداثا وقعت ثم يعقب عليها بقوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ النور: 44، أو لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ يوسف. 111. واليوم نتوقف عند حادثة عظيمة ومهمة في تاريخ الدعوة الإسلامية، ألا وهي حادثة الإسراء والمعراج، التي حسب أحد الروايات انها حدثت في السابع والعشرين من شهر رجب. ان معجزة الإسراء والمعراج مَكرمة للنبي صلى الله عليه وسلم، وتقوية لعزيمته، وتخفيف لأحزانه. تأتي رحلة الإسراء بعد أن قاسى صلى الله عليه وسلم من قريش ما قاسى، ففكر ان يذهب الى ثقيف اهل الطائف لدعوتهم، راجيا من الله عالى أن تدخل تقيف في الإسلام. فردوه أسوأ رد، وسلطوا عليه صبيانهم وسفهائهم يرمونه بالحجارة حتى أدموا قدمه صلى الله عليه وسلم، وجرحوا صلى الله عليه وسلم مشاعره بالكلام البذيء. فتوجه صلى الله عليه وسلم الى ربه ورفع يديه الى السماء يناجي ربه. فبعث الله اليه ملك الجبال يقول ان شئت أطبقت عليهم الجبلين؟ فأبى صلى الله عليه وسلم أن يقابل السيء بالسيء، وإنما قابل سوء معاملتهم بدعاء الهداية لهم فقال: «إني أرجوا أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولايشرك به شيئا، اللهم أهدي قومي فإنهم لا يعلمون».
كان جزاء هذا الخلق الرفيع رحلة الإسراء والمعراج. تذكر كتب السير أن النبي صلى الله عليه أُتي بالبراق الذي يضع حافره عند منتهى طرفه، فحُمل عليه صلى الله عليه وسلم، ثم خرج به صاحبه جبريل عليه السلام يرى الآيات فيما بين السماء والأرض حتى إذا انتهى الى بيت المقدس، فوجد فيها ابراهيم خليل الله، وموسى كليم الله، وعيسى كلمة الله في نفر من الأنبياء، قد جمعوا له فصلى بهم. ثم أُتي بثلاثة آنية: إناء فيه لبن، وإناء فيه خمر، وإناء فيه ماء. قال ابن مسعود: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « فسمعت قائلا يقول حين عُرضت علي. إن أخذ الماء غرِق وغرِقت أمته، وإن أخذ الخمر غوى وغوت أمته، وإن أخذ اللبن هُدي وهُديت أمته. قال فأخذت إناء اللبن فشربت منه، فقال جبريل عليه السلام: هُديت وهُديت أمتك يا محمد» ابن هشام. ثم عُرج به صلى الله عليه وسلم الى السموات العلا حتى ذُهب به الى سدرة المنتهى. والى هذا التكريم تشير آيات في سورة النجم حيث قال الله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى. 13 عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. 14 عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى. 15 إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى. 16 مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى. 17 لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى. النجم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
معشر الإخوة والأخوات: في هذه الرحلة المبارك فرض الله سبحانه وتعالى على الأمة الإسلامية الصلاة. هذه الشعيرة التي فرضت في السموات العلا دالة على مكانتها عند الله، وعلى أهميتها في حياة الإنسان. قال صلى الله عليه وسلم في قصة معراجه: « فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَىَّ مَا أَوْحَى، فَفَرَضَ عَلَىَّ خَمْسِينَ صَلاَةً فِى كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى – عَلَيْهِ السَّلاَم – فَقَالَ مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ خَمْسِينَ صَلاَةً. قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ يُطِيقُونَ ذَلِكَ… فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَبَيْنَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَم حَتَّى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِكُلِّ صَلاَةٍ عَشْرٌ فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلاَةً » ومن الدروس العظيمة المستفادة من رحلة الإسراء والمعراج هي دور القناعات في حياة الإنسان والتعامل مع الناس، ففيها نموذج الصاحب الوفي، والصديق المخلص، والمؤمن المقتنع. في صبيحة ليلة الإسراء والمعراج أخبر النبي صلى الله عليه وسلم الناس برحلة الإسراء والمعراج، فانقسم الناس الى مصدق موقن، ومكذب جاحد، أو مشكك تائه. فظن أبو جهل أنها هي الفرصة الثمينة للإقاع بين الصاحب وصديقه، وبين المؤمنين ورسول الله صلى الله عليه وسلم. فهرع الى أبي بكر الصديق ليخبره بهذا العجب العجاب. كيف يزعم محمد أنه أسري به من مكة الى بيت المقدس، ثم عاد في ذات الليلة وهم يضربون إليها أكباد الإبل شهرا ذهابا وشهرا إيابا، وهو يظن في قرارة نفسه أنا أبا بكر سيتخلى عن محمد صلى الله عليه وسلم. لكن أبا بكر رضي الله عنه خيب ظن أبي جهل ومن معه. فكان جوابه كلمات معدودة. حيث قال رضي الله عنه: “إن كان قد قال فقد صدق” كلمات يسيرة، تحمل معاني لها وزنها في موازين المبادئ والقناعات. فلنتخذ من هذه الذكرى المباركة دروسا في الثبات على الطاعة، والصبر على الشدائد، واليقين أن بعد العسر يسرا، وان بعد الكرب يأتي الفرج. قال تعالى: وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ. 127 إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ 128 النحل.