الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجَنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
أثرى القرآن الكريم الحضارة الإنسانية با|لإشعاع الفكري والروحي. إن من يدرس انجازات الحضارة الإسلامية يرى عظيم ما أنتجه العقل المسلم، وما أبدعه في ظلال إشارات قرآنية. رفع القرآن الكريم تفكير العقل المسلم إلى مستوى اكتساب المعرفة والإبداع. بفضل القرآن الكريم انفصل العلم إلى حد ما عن الأساطير، كما انفصل علم الفلك عن التنجيم. لضرورة تحديد أوقات الصلاة، ومعرفة جهة القبلة لأداء الصلاة، ورؤية الهلال لتحديد بداية الشهر اهتم المسلمون بعلم الفلك. صار لعلم الفلك مكانة كبيرة في خلافة المأمون بن هارون الرشيد. اخترع الفلكيون المسلمون مراصد بعناية فائقة، ووضعوا حسابات وطرقا بديعة. أسس رواد علم الفلك من المسلمين هذا العلم على رصد الظواهر الفلكية والحساب. لقد لفت القرآن الكريم نظر المسلمين إلى ظواهر فلكية التي بتتبعها وحسابها وصلوا إلى معرفة الساعات والأيام والشهور ثم السنين. قال الله تعالى: «هُوِ الّذِي جَعَلَ الشّمْسَ ضِيَاءاً وَالقَمَرَ نُوراً وَقَدرهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابِ» يونس: 5. وقال أيضا: «وَجَعَلْنَا اللّْيْلَ وَالنّهَارَ أَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَهَ اللّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَهَ النّهَارِ مُبْصِرَهً لِتَبْتَغُو فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ وَلِتَعْلَمُو عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابِ» الاسراء: 12. بفضل القرآن الكريم حرر علماء المسلمين علم الفلك من التنجيم أي من الشعوذة والدجل، وجعلوه علما خالصا يُعتمد فيه على النظرية والبرهان. فخلف المسلمون مؤلفات علمية ميراثا ونبراسا للعالم الإنساني. فما بين القرن السابع الميلادي ونهاية القرن السادس عشر الميلادي كانت القيروان ودمشق وبيت الحكمة في بغداد وقرطبة والقرويين في فاس والأزهر في القاهرة هي المراكز العلمية في العالم. إن مدرسة القرآن الكريم ربّتْ عقل المسلم على الحكمة، ونفسه على التزكية. قال الله تعالى: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ» الجمعة: 2. فالدارس لآيات القرآن الكريم يرى كيف ألف القرآن بين الدين والعقل، وكيف مزج بين عبادة الله سبحانه وتعالى وبين الإرتقاء في سلم الحضارة والحداثة. «كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ» ص: 29. إن القرآن الكريم ينمي في المسلم القوة الفكرية، ويغرس فيه قوة العقيدة. كذلك إن القرآن الكريم يقوي الإنسجام بين قوة العقل والروح، وبين قوة الفكر والعاطفة، وبين قوة الجسد والنفس.
لما سطع نور القرآن في صدور المسلمين والمسلمات وتجاوبت معه عقولهم، نفر من كل فرقة طائفة للبحث العلمي، مستجيبين لآيات القرآن العظيم. فأصبحت تعاليم القرآن معينة لهم في تبديد سحب ظلام الجهل، وجعلهم روادا للعلم والمعرفة. جعل القرآن الكريم طلب العلم فضيلة عظيمة، ومرتبة شريفة في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: «وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» التوبة: 122. وقال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: « وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ» مسلم. فكان القرآن وما زال مدرسة روحانية، وثقافية فكرية تزود المسلم والمسلمة بشتى أنواع الثقافات الروحية والفكرية، التي لها صلة بالإنسان وبالكون والطبيعة. قال الله تعالى: « أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ 71 وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ 72 وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ ۖ أَفَلَا يَشْكُرُونَ 73» يس. لقد ساهم أبناء المدرسة القرآنية في وضع مبادئ لشتى علوم الإنسانية، كالطب، وعلم الكلام، والفلك والرياضيات. وقد أصبحت لديهم دراسة علم الحساب من مستلزمات دراسة علم الفرائض، الذي يقتضي معرفة عمليات الضرب والتقسيم والكسور. كانت عملية حسابِ حِصصِ الميراث مسألة معقدة في الفقه الإسلامي. لقد دفعت هذه المسائل علماء المسلمين نحو البحث إلى ابتكار أساليب رياضية لتبسيط عمليات حسابية تتيسر بها قضاء حوائج المسلمين. لقد كان أنتشار الإسلام وإتصاله المباشر بالحضارات الأخرى، وبخاصة حضارة الهند، أثر عظيم في تحقيق ما كان علماء المسلمين يصبون إليه. إذا استقرأنا آيات القرآن التي ضربت لنا الأمثال، وحثت على الإستبصار والتفكير، والنظر في الكون، وأخذ العبر من الأمم السابقة، ومن الظواهر الكونية، لتبين لنا أن مراد الله عزوجل هو إعداد ذلك الإنسان الناضج العقل، السليم الفكر، العابد لله الواحد القهار. قال الله تعالى: « أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ 17 وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ 18 وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ 19 وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ 20 فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ 21 لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ 22» هذه الآيات ومثيلتها في كتاب الله عزوجل كثيرة تدفع المسلم والمسلمة لدراسة علم الحيوان، وطبقات الأرض والجبال، والكواكب والنجوم، وغيرها من العلوم.