الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، وبها ترفع الدرجات، وبها يرتقي الإنسان عن الهفوات، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
شهر رمضان هو شهر القرب من الجنان، والبعد عن النيران، شهر الإقبال على فعل الخيرات، وترك المنكرات، وإنه لفرصة لكل من أراد أن ينعم بالبركة والرحمة والمغفرة، إنه شهر يقبل فيه المسلمون على الله، فيتنوعون فيه من أعمال البر، من صلاة وصيام وقراءة القرآن، وإحسان إلى المحتاجين. يمكن تلخيص صيام رمضان في أمور ثلاثة: التوية والرجوع الى الله تعالى وتصحيح الخطأ، والإقبال على دراسة كتاب الله، والعمل بمقتضاه، وتجديد النية، والعهد مع الله تعالى. الأمر الأول التوبة والرجوع الى الله تعالى: فعلى المسلم أن يغتنم الفرصة في هذا الشهر المبارك فيتوب إلى الله تعالى، ويقلع عن كل ما ينافي قيم الإسلامية، ويستجيب لنداء الرحمن: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ. الذاريات: 50. فكثيرا ما يكون الخطأ مصدر الإلهام لتقويم السلوك، وتصحيح مسار الحياة، والله عز وجل يحب الراجعين إليه الأوابين، حيث قال في كتابه العزيز:إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَالفقرة: 222. ويذكر المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الآتي أن كل انسان قد يقع في الخطأ، وفي نفس الوقت يؤكد صلى الله عليه وسلم على أهمية التوبة، حيث قال: «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» الترمذي. المخطئ الحقيقي هو الذي يصر على فعل الخطأ، ويجادل عنه بالباطل، ويعتبر الإعتراف بالخطأ نقيصة وإهانة، ويجهل أن الرجوع إلى الحق من أخلاق العظماء، وأوصاف المتقين. قال الله تعالى في وصف ذلك الذي يعمل على مراجعة نفسه، وتصحيح مساره: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ. آل عمران: 135.
والأمر الثاني من أمور صيام رمضان: الإقبال على دراسة كتاب الله تعالى، والعمل بمقتضاه. فبقراءة القرآن، والتدبر في معاني آياته تتطبع نفس المسلم والمسلمة على القيم العالية والمبادئ السامية. معشر المسلمين والمسلمات فلعل كثيرا منا يدرك ما للإقبال على كتاب الله من أهمية بالغة، ومكانة سامية في حياة المسلم. فبكتاب الله نغذي أرواحنا، ونرقق قلوبنا، ونقوي روابطنا، ونصلح فيما بيننا، فهو كما وصفه سيد المرسلين: « وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، هُوَ الَّذِي لاَ تَزِيغُ بِهِ الأَهْوَاءُ، وَلاَ تَلْتَبِسُ بِهِ الأَلْسِنَةُ» الى أن قال صلى الله عليه وسلم:«مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» الترمذي. قال ابن عباس يصف حالة النبي صلى الله عليه وسلم مع كتاب الله في رمضان:«كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ، وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ، حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ ـ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ـ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ» البخاري .والأمر الثالث من صيام رمضان تجديد النية، العهد مع الله تعالى، لأن عليها مدار العمل. قد تحيط بالمرء ظروف،وتفتح أمامه مداخل الشيطان تنقص من إخلاصه، وتقل من عزيمته، والإلتزام بمقتضيات الشرع الإسلامي. الصيام نوعان: معنوي وحسي، فالصيام المعنوي هو روح الصيام وهو الإعتدال في السلوك الفردي والإجتماعي، وترجيح مقتضيات الشرع على مغريات الهوى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تأكيدا على الصيام المعنوي:«مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» البخاري. وفي هذا المعنى قال جابر بن عبد الله (موقافا): «إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ، وَبَصَرُكَ، وَلِسَانُكَ عَنِ الْكَذِبِ وَالْمَحَارِمِ، وَدَعْ أَذَى الْخَاصَّةِ، وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارٌ وَسَكِينَةٌ يَوْمَ صِيَامِكَ، وَلا تَجْعَلْ يَوْمَ فِطْرِكَ وَصَوْمِكَ سَوَاءً» البيهقي.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
كما أن لصيام رمضان مزايا روحية، له أيضا مزايا صحية مذهلة، فصيام رمضان يساعد أولا على التخلص من السموم خارج الجسم. ثانيا يقلل من نسبة السكريات في الدم. ثالثا يعمل على خفض تخزين الدهون في الجسم. رابعا يعمل على تقوية جهاز المناعة. خامسا كذلك يساعد الصيام على التغلب على مشكلة الإدمان. جعل الله تعالى أيضا اجابة دعوة المناجين المتضرعين إليه الموقنين بالإجابة من خصائص رمضان. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاَهٍ» الترمذي. وفي سياق آيات الصيام نزلت آية قرآنية على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تخاطب أعماق النفس المسلمة، وتواسي الصائم مما قد يجده من مشقة، وتجعله يتطلع إلى ما عند الله من النعيم في الآخرة، والسكينة في الدنيا. قال الله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ. البقرة: 186. هيأ الله تعالى أوقاتا يستجيب فيها دعاء الصائم وهي كالتالي: أولا عند الإفطار. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ لِلصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ لَدَعْوَةً مَا تُرَدُّ»ابن ماجه. وثانيا وقت السحور، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا مَضَى شَطْرُ اللَّيْلِ أَوْ ثُلُثَاهُ، يَنْزِلُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَى، هَلْ مِنْ دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ، هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَه،ُ حَتَّى يَنْفَجِرَ الصُّبْحُ» مسلم. ومن خصائص الشهر المبارك الصبر. فالصيام يولد لدي الصائم الصبر والتحمل، ويقوي ليديه الإرادة والعزيمة. إن الصبر أساس لكل خلق جميل، وصيانة لكل نفس عن كل خُلُقٍ رديء. وفي هذا المعنى قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ يَوْمًا صَائِمًا، فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَجْهَلْ، فَإِنِ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ، أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ» مسلم.