الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، وبها ترفع الدرجات، وبها يرتقي الإنسان عن الهفوات، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
إن شرف الإنسان وفضله يرجع إلى استعداده لمعرفة الله تعالى، التي تكسبه في الدنيا جمالا وكمالا، وفي الآخرة عدة وذخرا، وإنما يستعد الإنسان لمعرفة خالقه بقلبه لا بجوارحه، فالقلب هو الساعي إلى الله تعالى، والمكاشف بما عند الله، وأما الجوارح ما هي إلا آلآت يستخدمها القلب. إن القلب هو المخاطب بالتكاليف الشرعية، وهو مركز التعقل والإدراك، وسائر العمليات العقلية والوجدانية. فالله عز وجل خص القلب بوظيفة التعقل والتفقه. وعلى أي قلب نتحدث هنا؟ هل القلب المذكور في القرآن الكريم هو القلب المعروف طبيا وتشريحيا؟ الحقيقة أن القلب يطلق على معنين أحدها الصفة التشريحية الطبية:وهو اللحم الصنوبري الشكل المودع في القفص الصدري مائلا الى الجانب الأيسر من الصدر، وهو عبارة عن مضخة دموية خلقها الله سبحانه وتعالى لتضخ الدم إلى جميع أنسجة الجسم، والمعنى الثاني هو القلب المعنوي أو الباطني، عرفه الإمام الغزالي رحمه الله تعالى بقوله: هو لطيفة ربانية روحانية، وهي حقيقة الإنسان. والقلب المعنوي هو المتعلق بالعواطف، كالحب والكره، ومركز الإداك والفهم، ومقر البصيرة والتبصر. يعمل القلب على تواصل دائم مع الدماغ، ويؤثر عليه في عملية التفكير والشعور، وفي اتخاذ القرارات. يؤثر القلب تأثيرا قويا على ذكائنا ووعينا وعواطفنا. قال تعالى في كتابه الحكيم: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» الحج: 46.
إن لفظ القلب ورد في القرآن الكريم أكثر من مائة وثلاثين مرة إلا أنه لم يقصد به الدلالة على القلب بمعناه التشريحي الطبي، وإنما قصد به القلب المعنوي أو الباطني الذي هو محل الإدراك والمعرفة، ومركز الإيمان، وما يتصل به من عاطفة وإرادة، ومنه تتفجر ينابيع الحكمة والمعرفة. في هذا السياق قال تعالى: « إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ» ق: 37.. فمعرفة حقيقة القلب من أعظم المعارف التي يحتاجها الإنسان، معرفة تستوجب الحذر من تقلبات القلب وتغيراته. إن القلب أشد تقلبا من الريشة في مهب الريح، وأشد تغيرا من القٍدر في غليانه. قال رسول الله عليه وسلم: «إِنَّمَا سُمِّيَ الْقَلْبُ مِنْ تَقَلُّبِهِ ، إِنَّمَا مَثَلُ الْقَلْبِ كَمَثَلِ رِيشَةٍ مُعَلَّقَةٍ فِي أَصْلِ شَجَرَةٍ، يُقَلِّبُهَا الرِّيحُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ» أحمد. يمر الإنسان خلال يومه بحالات شعورية مختلفة ومتناقضة أحيانا، فساعة يفرح فيها، وساعة يحزن فيها، وساعة يحمل فيها الحب للآخرين، وأخرى يحقد فيها على الآخرين. لا يعلم الإنسان أين قلبه الباطني ولا يلمسه، ولكن يحس به، ويشعر بوجوده، لأن للقلب المعنوي ارتباطا وثيقا بالعين التي ترى، والأذن التي تسمع، واللسان الذي يتكلم، والدماغ الذي يقوم بسائر العمليات العقلية، وله أيضا ارتباطا بالوجدان الذي يشمل العاطفة، والقلب المعنوي هو موضع نظر الله تعالى، فعجبا بمن يعتني بهندامه الذي هو محل نظر الخلق، لئلا يطلع مخلوق على عيب فيه، ولا يعتني بتطهير قلبه الذي هو محل نظر الله تعالى. قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ » مسلم.