الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
يقول الله تعالى: «يا أيُّها الذِينَ آمَنوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَمَا كُتِب عَلَى الذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمُ تَتّقُونَ» البقرة: 183. الصيام هو أحد أركان الدين الإسلامي الخمسة، وأنّه كان مفروضًا على الأمم السابقة. فرض الله صيام رمضان على مرحلتين: الأولى على سبيل الإختيار، كان المسلمون مخيريين بين الصيام وبين إطعام مسكين. قال سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ لَمَّا نَزَلَتْ: «وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ» كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْتَدِيَ حَتَّى نَزَلَتِ الآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا. أي قوله تعالى: « فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ » البقرة: 184. قال عطاء أنه سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ، يَقْرَأُ «وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ، هُوَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْمَرْأَةُ الْكَبِيرَةُ لاَ يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا، فَلْيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا» البخاري. وأما في المرحلة الثانية فرض الله صيام رمضان على سبيل الوجوب بقوله تعالى: «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ » البقرة: 184. فلم يستثن الله سبحانه وتعالى إلا المريض والمسافر، وذلك لإزالة الحرج، ورغبة في التيسير، وعدم تكليف الإنسان بما لايطيق. قال الله تعالى: «وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ ». والحكمة من هذا الإستناء هو التيسير على المسلمين، والهدف من العبادة في الإسلام هو تغذية الروح، والثراء الروحي يعين الإنسان على توجيه غرائزه. يعلمنا رمضان التأمل في ذاتنا، فالتأمل في الذات يؤدي إلى معرفتها، ومعرفة الذات هي مفتاح النجاح في الدنيا والآخرة لذلك ختم الله تعالى آية الصيام بقوله: «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» البقرة: 185. قد استقرَّ الرأي عند أئمة المسلمين أن كِبار السنِّ الذين لا يقدِرون على الصِّيام، والمرضَى الذين لا يُرجى شفاؤهم لا يجِب عليهم الصيام، وإنما الواجب عليهم هو إخراج الفدية عن كل يوم، وهي اطعام عن كل يوم مسكينا. لقوله تعالى تعالى:«وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ». حيث إن إطعام المسكين في رمضان وإدخال السرور عليه تغذي روح الإنسان، وتبعث فيه الطمأنينة، كما أنه قد صام شعيرة الصيام. أما المَرضى الذين يُرجَى شفاؤهم، فيُرَخَّص لهم في الفِطر وعليهم القضاء، لقوله تعالى: «ومَنْ كَانَ مَريضًا أو عَلَى سَفَرٍ فِعِدّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ».
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
معشر الإخوة والأخوات:
ان صيام رمضان فرصة للتغيير، وفرصة ليتعلم الإنسان من خلاله ما يرفع درجته عند ربه، ويتذوق في رحابه حلاوة المناجات، وينتصر في حصنه على غرائز نفسه. إن التغيير عبارة عن رحلة من حالة راهنة إلى حالة منشودة. يعلمنا الصيام التخلق بخلق التطور والتغيير. فتطور الإنسان في إكتشاف ذاته سبيل إلى معرفتها، ومعرفة ذاته سبيل إلى معرفة الله سبحانه وتعالى. يعود رمضان كل سنة ليصحح مجرى سلوك المسلم والمسلمة نحو التهذيب في مسار التزكية. يعود رمضان ليضيء لنا درب السلم: السلم مع الذات، السلم مع المجتمع، السلم مع الكون. يعود رمضان ليشعل نور المحبة في قلوبنا. هكذا يعلمنا رمضان أن تغيير الحال لا يكون بالتمني، وإنما يكون بالعمل الجاد، والنية الخالصة، والتأمل. يؤكد لنا القرآن الكريم على أن مفتاح التغيير يملكه كل إنسان، فمتى عزم وجَد في تغيير طريقة تفكيره، وطريقة حياته، شد الله أزره، وحقق مراده: «إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ » الرعد: 11. لا يتم هذا كله إلا إذا أدرك الصائم أبعاد الصيام، وعمل على ترسيخها على المستوى الفردي والجماعي. «يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ» الأنفال: 24. من المُسَلم فيه هو أن كل مسلم ومسلمة حريص على اتباع خطى النبي صلى الله عليه وسلم في صيامه وتعاليمه، لكن هل المسلم أو المسلمة اليوم حريصان كذلك على معايشة هذه التعاليم، والتوقف على معانيها. إن تعاليمه صلى الله عليه وسلم مبنية في الأساس على توحيد الله، وإن أقصى درجات إدراك جمال صيام رمضان، وتذوق طعم روحانياته تبدأ من إدراك معنى التوحيد، فبالتأمل في معنى توحيد الله عز وجل وقدرته في الخلق، يستطيع الإنسان أن يدرك جمال المحسوس والملموس من خلق الله تبارك وتعالى. «الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ۖ مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ ۖ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ» الملك: 3. إن انسجام نظام الخلق هو تمام جمال المخلوقات، وبرهان صدورها عن إلاه واحد لا شريك. «الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ» السجدة: 7. إن المتأمل في فلسفة الصيام وغايته، يجد في الصيام تربية عميقة للنفس في تحقيق مبدأ الكرامة الإنسانية، وذلك بتقوية الحس الداخلي لفعل الخير، وتنمية الضمير الحي، والشعور بالإطمئنان والسلام. « الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» الرعد: 28.