الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
لقد أنزل الله تعالى القرآن الكريم نورا لا تطفأ أنواره، ومنهاجًا لا يضل نهجه، وعذاء لا تشبع منه الروح المؤمنة. إن الكلام عن القرآن الكريم كلام جميل وعظيم، فهو ينبوع الطاقة الروحية، ومشكاة الإبداع والعدل. وقد وصفه ﷺ بقوله: «مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِىَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» الترميذي. إن أهم واجباتنا نحو القرآن الكريم هي: الإيمان به، وتلاوته بالتدبر، وحفظه من النسيان، وفهم مراده ومقصده، والعمل بروحه ومعقوله، والقيام بتعليمه وتبليغه بشكل صحيح. يجب أن نقنع أنفسنا أولا بأن القرآن الكريم كتاب يصنع الأفراد، ويصنع الحضارة، ويصنع السلام. يحتاج القرآن الكريم في كل عصر إلى قراءة تناسب مستجداته ونوازله. كم نحن بحاجة إلى أن تكون نظرتنا إلى القرآن الكريم نظرة شاملة لغاياته ومقاصده. يتحدث القرآن الكريم بشمولية بديعة عن كل جوانب الحياة. قال الله تعالى: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ» النحل: 89. لا نستطيع فهم القرآن الكريم إلا إذا قرأه كل عالم مسلم من زاوية تخصصه العلمي. فلذلك لا يجب أن نعتمد على المنهج الأصول فقط في فهم كتاب الله تعالى، بل نحتاج إلى مناهج فلسفية وصوفية وأدبية وفلكية وطبية. والحاجة إلى هذه المناهجة ضرورية لأن القرآن الكريم يشملها في ثنايا آياته. تكمن قيمة القرآن الكريم في قدرته على التغيير إذا أحسنا فهمه، وتأثرنا بمعانيه الروحية والفقهية والإجتماعية. فبذلك يكون القرآن الكريم مصدرا لسلوكنا، وأخلاقنا. وبذلك نحقق أبعاد التغيير والتذكير والتنوير للقرآن الكريم. كما نجعله كتاب تغيير وتقويم لواقعنا، نجعل أيضا كتاب تحويل لحياتنا اليومية إلى طاقة متحركة. ولم ينزل الله عز وجل القرآ ن لنضعه في البيوت للتبرك، وعلى الجدران للزينة. إن الغاية الأساسية التي لأجلها نزل هذا الكتاب ذكرها الله تعالى في قوله: «كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ» ص:29. وفي آية أخرى يحذرنا الله تعالى من عدم تدبر ما نقرأه أو نسمعه من القرآن، حيث قال: «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا» محمد: 24. فالقلوب المقفلة لا تستقبل شعاعة من نور الإيمان، ولا تغمرها طمأنينة ولا سكينة. إن القراءة المتدبرة الواعية في معاني القرآن الكريم هي الوسيلة السليمة لعلاج مشكلاتنا النفسية والإجتماعية. لقد وصفت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قراءة النبي ﷺ للقرآن كما يلي: كان «يَقْرَأُ مُتَرَسِّلاً إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ » مسلم. إن طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في قراءة القرآن الكريم هي المنهج القادر على تغلغل معاني القرآن الكريم في وجدانا، لتنقية شوائب نفوسنا، وعقولنا. إن أهم بعد في قراءة القرأن الكريم هو التفاعل الروحي والفكري مع مواضيع آياته. انزل الله تعالى القرآن ليرفعنا من حضيض التخلف والإنحراف إلى قيم الخير والرقي الحضاري. قال الله تعالى: « هُوَ ٱلَّذِى بَعَثَ فِى ٱلْأُمِّيِّۦنَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَٰلٍۢ مُّبِينٍۢ» الجمعة: 2. يمدنا التأمل في آيات القرآن الكريم بصيرة تعيننا على كسر الأقفال على قلوبنا، والإغتراف منه لعلاج مشاكل واقعنا.