الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين» نقابل في حياتنا اليومية أشكالا وأنواعا من الناس، متنوعون في طريقة تفكيرهم وأسلوب حياتهم. فمنهم من يتمتع بسلامة التفكير والسلوك، ومنهم من يعاني من الكبت النفسي. ومن آثار الكبت النفسي الإضطرابات الداخلية. تؤثر الإضطرابات الداخلية سلبا على حياة الإنسان، وعلاقته الأسرية والإجتماعية. كما تؤثر أيضا سلبا على صحته البدنية. يُكثر الذي يعاني من الإضطرابات النفسية من الضجر والشكوى، ويعاني أيضا من سرعة الغضب مما يؤدي به الأمر الى العزلة، حتى أنه يقاطع أفراد عائلته. فما هو واجبنا نحو من يعاني من كثرة الشكوى من الآخرين، ولا يتمتع براحة البال. إن من يقع تحت وطأة الضغط النفسي يحتاج إلى من يصغي إليه بلطف وحنان حتى يُروح عن نفسه، ويحتاج إلى من يعامله بالرحمة والإحسان، ولا يفشي سره، ولا يخبر الآخرين بكل ما يقوله، كما يحتاج أيضا إلى من ينصحه بالحسنى. فهو يحتاج إلى إفراغ الأمواج التي تتصارع في داخله. والنبي صلى الله عليه وسلم قال في حق كتم سر المسلم: «مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ» ابن ماجه. فلا يجوز أن ننقل كلامه إلى الآخرين، ونسعى بذلك إلى إيقاع العداوة بين افراد العائلة والمجتمع. عد الإسلام هذا النوع من السلوك بالنميمة. يحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من هذا السلوك بقوله: »أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِشِرَارِكُمُ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ الْمُفْسِدُونَ بَيْنَ الأَحِبَّةِ الْبَاغُونَ للْبُرَآءِ الْعَنَتَ« أحمد.
لقد ذم ديننا الحنيف العجلة والتسرع بالتصديق بكل ما نسمع. إن الشاكي قد يكون له عذر فيما فعل، ولكن السامع ليس له عذر أمام الله تعالى بتصديق كل مايسمع. فعليه أن يتيقن ويتثبت من قول القائل. إن صاحب النفس الزكية يعمل على إصلاح بين الإخوة والأحبة. يقول الله تعالى في مدح النفس الزكية: «لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا» النساء: 114. إن أفراد عائلتنا هم عدتنا وقوتنا وسندنا، فلا يجوز أن نفرط في أحدهم، يجب على كل مسلم أن يسعى في تقوية روابط ذوي الأرحام وروابط الأخوة، والسعي في إصلاح ذات البين. لقد عد النبي صلى الله عليه وسلم إصلاح ذات البين من أعظم العبادات. حيث قال: «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ. قَالُوا بَلَى، قَالَ: صَلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ» الترميذي. تعود فائدة إصلاح بين افراد العائلة بالخير على المجتمع بكامله. يحثنا الإسلام على أن نقابل المسيء إلينا بالسماحة والعفو. في هذا السياق يجب أن نقتدي بسيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه في عفوه على مسطح ابن أثاثة الذي كان له دور فعال في حادثة الإفك. وأنزل الله تعالى القرآن في حقه، قال تعالى: « وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» النور: 22. وأكد الله عز وجل في سورة أخرى على فضل السعي على جمع الشمل بين الإحبة. قال تعالى: «وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» آل عمران: 133. المتأمل في آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة يتبين له أن الإصلاح بين الأقارب والجيران وبين عموم الناس عبادة جليلة وأن السماحة والعفو خلق جميل يحبهم الله تعالى ورسوله. فالإصلاح والصلح والعفو كلهم خير، فبهم تكون وحدة الأسرة والمجتمع متماسكة، وتأتلف القلوب، وتجتمع الكلمة، وينبذ الخلاف، وتعم الطمأنينة وراحة البال.