الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
أظلنا رمضان بنوره ورحمته، فنور دور المؤمنين والمؤمنات بخيره وطهره. حل رمضان ليربي في الناس قوة الإرادة والعزيمة، ويقوي فيهم مَلَكَةَ الصبر والرضا، ويعوِّدهم على الحلم والتحلم. في رمضان يصبر المؤمن والمؤمنة على حمأة الظمأ، ومرارة الجوع، ويجاهد نفسه في زجرِ الهوى، واتباع المغريات طمعا فيما عند الله تعالى من الثواب والجزاء الحسن. يُذكِّر رمضان المؤمنين والمؤمنات بحال الجوعَى من الفقراء. يستوي في رمضان الغني والفقير، يُمسِكون عن الطعام والشراب في زمنٍ واحدٍ، ويُفطِرون في وقتٍ واحد، يتساوون طيلةَ النهاربالجوع والظمأ، أمة واحدة ويعبدون إلاه واحدا. يتحقَّق في الصائمين قوله تعالى:إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِالأنبياء: 92 . إن رمضان مدرسة تربوية، يتدرب فيها المؤمن والمؤمنة على امتثال أوامر الله تعالى أمرا ونهيا. إن الصوم يهذب النفس على فعل الخير وطاعة الله تعالى، ويزيكها من كل سلوك مذموم، ويرفعها إلى سلوك محمود. إن رمضان يحرر الإنسان من قيد المطامع والأهواء، ويفكه من أسر المغريات المادية. تتجدد أفراح أهل الإيمان بتجدد مواسم الروحانيات، ومناسبات الطهر والصفاء، وأجواء المودة والأخوة. رمضان محطة لتعبئة القوى الروحية والخلقية، فهو محطة لتزكية النفس من الكراهية، وضبط غرائزها، فهو محطة للصعود إلى قمم الفضائل، ومعالي الشمائل المحمدية. رمضان شهر الجود، وصلة الأرحام، وشهر المصالحة. فما أجدر المسلم والمسلمة وهو يستقبل هذا الشهر الفضيل أن يراجع حسابات نفسه، ويعيد النظر في سلوكياته تجاه ربه، وتجاه إخوته في الرحم والدين والإنسانية، ويفتح صفحة التواصل والتعاون على البر والتقوى.
لفضل نعمة الأمن والأمان ومكانته في الإسلام كان رسول الله عليه وسلم يقول إذا رأى الهلال «اللهُ أَكْبَر، اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالأَمْنِ وَالإِيمَانِ وَالسَّلاَمَةِ وَالإِسْلاَمِ وَالتَّوْفِيقِ لِمَا تُحِبُّ وَترْضَى رَبُّنَا وَرَبُّكَ اللهُ» الترمذي. وكان دعوة أبينا إبراهيم عليه السلام: رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتالبقرة: 126. فقدّم عليه السلام نعمة الأمن، على نعمة الطعام، لعظمها وخطر زوالها. إن أطيب الطعام وأحلى الشراب لا يستساغ إذا فقد الأمن، وحل محله الخوف. في رحاب الأمن والإيمان تهدأ النفوس، وتطمئن القلوب. مما يؤسفنا أن كثيرا من إخواننا وأخواتنا استقبلوا الشهر الفضيل بالخوف، والمرض، وقلة الطعام والدواء، لا يأمنون على أنفسهم ولا يؤدون واجباتهم الدينية باطمئنان. اللهم فرج همهم، واكشف كربهم، ويسر لهم أمرهم يا الله. إن من قيم رمضان حفظ اللسان من الزلل، والوقوع في أعراض الناس. فحقيقة الصيام هو من صام بطنه عن الطعام، ولسانه عن رديء الكلام، وبصره عن النظر إلى الحرام. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ ، فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ» البخاري. فليس من مقاصد الصيام الجوع والعطش، بل ما ينتج عن ذلك من كبح المغريات، وتربية النفوس على الخير. ويؤكد النبي صلى الله عليه وسلم على هذه المعاني بقوله: « وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ، فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ، أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّى امْرُؤٌ صَائِمٌ » البخاري. ويشير الحديث النبوي الشريف إلى قيمة رمضانية أخرى، وهي قيمة الحلم. فإن الصائم يسيطر على مشاعره، ويتغاضى عن جهل الآخرين، ولا يُستفز فينتقم لنفسه، بل يعفو ويتجاوز، مصداقا لقوله تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَاخَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًاالفرقان: 63.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
معشر الإخوة والأخوات:
ومن قيم رمضان الصدق، فالصائم لا يمد يده إلى حرام، ولا يمشي برجله إلى باطل، ولا ينطق لسانه إلا بالحق. قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ»البخاري. نزه الله المؤمنين والمؤمنات عن قول الزور، وجعل من أبرز صفاتهم الإبتعاد عن هذا السلوك الدنيء، فقال تعالى:وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًاالفرقان: 72. جعل الإسلام شهادة الزور من أكبر الكبائر، وأخطر الظواهر، لما يترتب عليه من انتهاك الحرمات، ونشر البغضاء بين الناس، وكم من انسان نزع منه حقه أو أودع السجن وهو بريء إلا بسبب قول الزور. فلا تكن أيها المسلم وأيتها المسلمة من الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم في حقهم: «رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلاَّ الجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلاَّ السَّهَرُ» ابن ماجه. ومن قيم رمضان الصبر، فمن كان قليل الصبر، شديد الغضب، فليتعلم من رمضان الصبر والآناة، فكل مسلم يصبر في شهر الصبر على الجوع والعطش ساعات طويلة، فمعنى هذا أنه يملك من القوة الداخلية ما يجعله يملك نفسه عند الغضب. قال تعالى:وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَال عمران: 134. وقال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:« لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ» مسلم. إن رمضام مدرسة لجهاد النفس، والانتصار على دواعي الرذيلة، و منكرات الأقوال والأفعال. فما أعظم الجائزة التي أعدها الله للفائزين في شهر الصيام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ. يَقُولُونَ لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ. فَيَقُولُ هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى، وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ. فَيَقُولُ أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالُوا يَا رَبِّ وَأَىُّ شَىْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا» البخاري.