الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله،«واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
فقد أظلّنا شهر الله المحرّم، أول شهور السنّة الهجرية وأحد الأشهر الحُرُم التي قال الله فيها: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ التوبة. كانت قريش في جاهليتها يعظمون الأشهر الحرم، ويحفظون للبيت الحرام والأماكن المقدسة حرمتها، حتى كان الرجل يلتقي بقاتل أبيه في الكعبة فلا يتعرض له بسوء، ثم جاء الإسلام فزاد بيت الله الحرام، والأشهر الحرم تعظيما ومهابة، وأكد فيها على حرمة الدماء والأموال والأعراض. كان أهل الجاهلية الأولى أحسن حالا من أهل الجاهلية المعاصرة، وها نحن في الأشهر الحرم نراى ممن ينتسب الإسلام لا يرقبون في الدماء حرمة ولا عهدًا. إن الإعتداء على الأنفس في الشهر الحرام كبيرة من أعظم الكبائر، وذنب عظيم من أعظم الذنوب. في بداية العهد المدني أنزل الله القرآن فأكد فيه حرمة الأشهر الحرم ، حيث أنزل الله عز وجل قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ البقرة:217. شهر الله المحرم هو الشهر الأول من العام الهجري الجديد، وفي اليوم العاشر منه -وهو ما يسمى بيوم عاشوراء– حصل حدث عظيم، ونصر مبين لنبي الله سيدنا موسى عليه السلام. عن ابن عباس رضي الله عنه:«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ” مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ؟. فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ أَنْجَى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا فَنَحْنُ نَصُومُهُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ. فَصَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ » مسلم.
إن المؤمن الصادق هو الذي يعظّم ما عظمه الله، ويمتثل لما أمر الله به، ويجتنب عما نهى الله عنه، ويسارع فى فعل الخيرات، ورعاية مصالح العباد والبلاد، ويدرأ عنهم المفاسد والأضرار. إن مراعاة المصالح وجلبها، ودفع المفاسد ودرئها مقصد عظيم من مقاصد شريعتنا الإسلامية. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: «إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها» إعلام الموقعين. فأين نحن معاشر الآدمين من هذا؟ لقد وردت أحاديث كثيرة عن فضل صيام يوم عاشوراء، وكان سيدنا موسى عليه السلام يصومه شكرا لله تعالى على نصره وتحريره لبني إسرائيل من ظلم فرعون وطغيانه. لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ تبين قصّة سيدنا موسى عليه السلام مع فرعون انتصار الحَقّ على الباطل، وهي تَبْعث في نفس الوقت الأمل في قلبِ المُؤمن والثبات أمام تطورات الأوضاع المؤسفة والمصائب المؤلمة التي أفرزتها شياطين الإنس. ان حاضرنا مرتبط بماضينا، وقصة سيدنا موسى عليه السلام لم يخلدها القرآن الكريم عبثا ولا سدى، وإنما هي قصة تجلت فيها قدرة من لا يقهر وعزة من لا يذل. إن الأيام تمضي والأحوال تتغير والأعمار تفنى، فالكيس من جعل هواه تبعا لهدي الإسلام، لا الإسلام تبعا لهواه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ» الأربعين النووية.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
خرج فرعون في محفل عظيم وجمع كبير من الجنود في أثر سيدنا موسى عليه السلام في اتجاه البحر:فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَالشعراء: 61. البحر أمامهم وجنود فرعون من ورائهم، فأجابهم الواثق بربه كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِالشعراء: 62. فكم نحن بحاجة إلى ثقة كثقة سيدنا موسى عليه السلام. أوحى الله تعالى إلى سيدنا موسى عليه السلام أن اضرب بعصاك البحر ، فضرب البحر بعصاه وفيها سلطان الله، فانفلق البحر:فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ. وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ ٱلآخَرِينَ. وَأَنجَيْنَا مُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا ٱلآخَرِينَالشعراء: 64 – 66. فصام سيدنا موسى عليه السلام شكرا لله تعالى على حمايته من بطش الظلمة وأعوانهم، فكم بحاجة البشرية اليوم إلى الرجوع إلى الله تعالى وصوم أيام الفاضلة، كيوم عاشوراء وغيره، إن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم صامه وأمر بصيامه، وقال: « وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ» مسلم. وقالت أمنا عائشة رضي الله تعالى عنها: «كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُهُ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ تَرَكَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ» البخاري. وصيام عاشوراء على ثلاث مراتب:
- الأول: أن يصام يوم عاشوراء وحده،
- والثانية: أن يصام معه اليوم التاشع،
- والثالثة: أن يصام معه اليوم الحادي عشر.
معشر المسلمين: فاستقيموا على منهج الله ، وافعلوا ما أمركم الله به واجتنبوا ما نهاكم عنه ، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا تتمتعون بالسكينة والطمأنينة.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الرضا والغضب، ونسألك القصد في الفقر والغنى.ونسألك نعيما لا ينفد، ونسألك قرة عين لا تنقطع، ونسألك الرضا بعد القضاء، ونسألك برد العيش بعد الموت. ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة.اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين.