الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
في فترة حكم الملك النمرود، ملك بابل، العراق اليوم، ولد سيدنا اراهيم عليه السلام. اشتهر ملك النمرود بالقوة والظلم. كان النمرود طاغية في قومه، ادعى الألوهية، وأنه يحيي الموتى. نشأ سيدنا إبراهيم عليه السلام في أسرة لها مكانتها الإجتماعية، ولها منزلتها بين أفراد مجتمع بابل. كان والده يعمل في صناعته التماثيل والأصنام التي كان يعبدها قومه. ظهرت على سيدنا إبراهيم عليه السلام منذ صغره علامات النجابة والنبوغ. كان متميزا بين أقرانه بحب الخلوة للتأمل في ملكوت السموات والأرض. كان عليه السلام له موقف من عبادة الأصنام، وكان يعتقد بوجود خالق عظيم، أعظم من تلك الحجارة التي يقدسها أهل بابل، وأن هناك إلاه واحد لا إلاه إلا هو. بدأ سيدنا إبراهيم عليه والسلام منذ شبابه رحلته في البحث عن الخالق سبحانه وتعالى، حيث استشعرعليه السلام بأن هناك قوة وعَظمة خلقت كل شيء، واستشعر أيضا أن تلك الآلهة التي يعبدها قومه لا تقدم لهم نفعا، ولا تدفع عنهم ضرا. قال الله تعالى: »وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا. إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا« مريم: 42 – 43.
بدأ سيدنا إبراهيم عليه السلام يخرج في الصباح والمساء إلى الجبال والأعالي للتفكر والتأمل في الخالق ومخلوقاته. ذات مساء نظر سيدنا إبراهيم عليه السلام إلى السماء فرأى نجما كبيرا، فظن أن هو الإلاه، فلما غاب النجم وراء حجاب الغيوم الكثيفة، ولم يعد يستطيع سيدنا إبراهيم أن يميز بين الشرق والغرب، ولا بين الشمال والجنوب، عندئذ أدرك أن النجم الذي رآه ما هو إلا كوكب من كواكب السماء. واصل سيدنا إبراهيم عليه السلام رحلته الإستكشافية في الكون حتى رأى كوكباً آخر، أكبر حجماً، وأجمل منظراً، فظن أنه الإلاه الحق الذي يبحث عنه، لكن لم يكن ذلك الكوكب أطول زمنا في السماء من النجم الذي رآه من قبل، فغاب هو أيضا. وسرعان ما تحولت فرحته إلى حزن عندما غرب القمر الذي ظن أنه هو الإلاه. وذات صباح رأى سيدنا إبراهيم عليه السلام الشمس بازغة في السماء، وراحت تطل من المشرق، وتلقي بأشعتها الخلاقة على الجبال والوديان والصحارى. حينئذ ازدادت آماله، بأن تكون هي الحقيقة الذي يبحث عنه. لم تدم آماله طويلا، حيث في مساء ذلك اليوم غربت الشمس، وغربت معها آمال سيدنا إبراهيم عليه السلام في أن يجد ربه الذي يبحث عنه. أصابت الحيرة سيدنا إبراهيم عليه السلام، وتشتت أفكاره بين الحقائق والأوهام. حتى أنقذه الله عز وجل من الأوهام التي كانت تحيره، فأوحى الله اليه.هذه هي رحلة تفكر وتأمل سيدنا إبراهيم عليه السلام كما يحكيها القرآن الكريم: «وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ. فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» الأنعام: 75ـ79.
واصل سيدنا إبراهيم عليه السلام التفكر في عظمة الله وقدرته، وذات مرة استوقفته مسألة إحياء الموتى. كما قد يستوقف أحدنا منظرحيوان ميت في غابة وقد توزعت أشلاءه في بطون الوحوش، وامتزج رميمه بالتراب. قد يفكر المرء أن هذه الأجساد البشرية التي تتوزع ذراتها بعد الموت، وتمتزج بالتراب، كيف تعود إلى حياة من جديد يوم البعث؟ شغلت خواطر البعث فكر سيدنا إبراهيم عليه السلام، فخاطب ربه سبحانه وتعالى أن يريه كيفة يحيي الموتى، فيرد الله عز وجل عليه بالسؤال أولم تؤمن، والله سبحانه وتعالى أعلم بإيمان إبراهيم عليه السلام. أكد سيدنا إبراهيم على ايمانه، وإنما كان سؤاله لأجل أن يطمئن قلبه، ويستريح باله، حتى لا تتغلب عليه الخواطر العارضة المشتت للفكر. قال الله تعالى: «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» البقرة: 260. تؤكد قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام على أن المشاهدة الحسية والتجربة تحقق الإطمئنان للقلب، واطمئنان القلب مفيد، ويؤدي إلى نتائج إيجابية على مستوى النفسي والبدني وعلى مستوى الفردي والإجتماعي، حيث إن القلب مركز الأحاسيس، والإنفعلات والعواطف التي لا تهدأ إلا بالتخلص منها بمعاينة الحقيقة، لا بالكبت والإعراض عنها.