الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، وبها ترفع الدرجات، وبها يرتقي الإنسان عن الهفوات، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
سعت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى تكوين مجتمع يقوم على أسس الإصلاح والصلاح للحياة الإنسانية، والأمن والاستقرار للنفس البشرية؛ مكث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو قومه إلى الإيمان بالله تعالى وعبادته، فما آمن به إلا قليل، بل لقي منهم هو ومن اسلم من المسلمين الإضطهاد والنكال، بدأ صلى الله عليه وسلم في البحث عن الحلول البديلة، وانقاذ المستضعفين مما يلحق بهم من الأذى، فأمر صلى الله عليه وسلم مجموعة من المسلمين بالهجرة إلى الحبشة، وذهب هو إلى الطائف يعرض عليهم دعوته، لكنهم استقبلوه بالحجارة والإهانة، وخرج منها صلى الله عليه وسلم مطرودا مهانا، فلم يكن ذلك يمنعه من مواصلة دعوته. بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من الطائف، بدأ يعرض نفسه على القبائل في المواسم، يشرح لهم تعاليم الإسلام ومبادئه. روى لنا ابن خزيمة بعض ما لقي صلى لببه عليه وسلم حتى من أعمامه. عن طارق المحاربي قال:«رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُوقِ ذي المجاز وعليه حلة حمراء، وهو يقول:يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا : لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا، وَرَجُلٌ يَتْبَعُهُ بِالْحِجَارَةِ، وَقَدْ أَدْمَى كَعْبُهُ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ لا تُطِيعُوهُ فَإِنَّهُ كَذَّابٌ، فَقُلْتُ : مَنْ هَذَا ؟ قَالُوا : هَذَا غُلامٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَهَذَا الَّذِي يَتْبَعُهُ عَبْدُ الْعُزَّى، يَعْنِي : أَبَا لَهَبٍ» .
أرسل الله تعالى سيدنا محمدا صلى الله الى الإنسانية جميعا. قال الله تعالى:«وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ»سبأ: 28. وكانت البشرية أنذاك واليوم أيضا في حاجة ماسة إلى رسالته ودينه، ولقد أحسن جعفر ابن أبي طالب رضي الله عنه في وصف مجتمع قريش، وفي تعداد قيم رسالة الإسلام، ومبادئها، وشعائرها. حينما استقبل جعفر وأصحابه النجاشي، ملك الحبشة، قال:«أَيُّهَا الْمَلِكُ ! كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْنَا نَبِيًّا وَرَسُولًا مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ، وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ لَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» ابن هشام. هكذا فتح الله قلوب الأنصار لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فبايعوه على الإسلام، وبعث معهم النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير إلى يثرب ليعلمهم مبادئ الإسلام وشعائره. ولما استقر الإسلام في يثرب، أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالهجرة إليها، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن اللّه قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون بها» لباب التأويل في معاني التنزيل. فخرج الصحابة رضوان الله عليهم مهاجرين إلى يثرب، ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا أبو بكر وعلي رضي الله عنهما.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
اتخذت قريش قرارا خطيرا، حيث ائتمروا على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم. نزل جبريل عليه السلام على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يخبره بمؤامرة قريش، وقرأ عليه قول اللّه تعالى: «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين» الأنفال: 30. هاجمت قريش بيت النبي صلى عليه وسلم وحاصروه من كل جانب، ليضربوه ضربة رجل واحد، فخرج عليه الصلاة والسلام عليهم وهو يتلو صدر سورة (يس) الى قوله تعالى: «وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ». ونثر على رؤوسهم التراب. أخذت قوة الله القاهرة بأبصارهم، ونجى رسول الله صلى الله عليه وسلم من سيوفهم، ولجأ هو وصاحبه أبو بكر الصديق إلى غار ثور، وبقي فيه ثلاثة ليال محروسا بعين الله، ومشمولا بلطفه. بثت قريش عيونا في طرقات مكة، لمراقبة مداخلها ومخارجها مراقبة شديدة، وبعثت من يقتص أثره في كل مكان، حتى أن بعضهم وقفوا على مدخل الغار الذي يوجد فيه النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه، فقال أبو بكر رضي الله عنه: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ، أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟» مسلم. بعد ثلاث ليال واصل النبي صلى الله عليه وسلم هجرته إلى يثرب في حفظ الله ورعايته. فما أحوج المسلمين اليوم إلى الاقتداء بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وضرورة الجمع بين الأخذ بالأسباب، والتوكل على الله تعالى، فالتوكل على الله يبعث في النفس الأمل والثقة والطمأنينة، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمتع بروح الأمل والعزيمة، حتى في هذه الرحلة المحاطة بالمخاطر كان صلى الله عليه وسلم يتمتع بروح معنوية عالية. قال تعالى:«وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً» الطلاق: 3.