الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
بدأت جموع حجاج بيت الله الحرام برحلة العودة إلى أوطانهم وذويهم بعد أن يسر الله عليهم استجابة نداء أبراهيم عليه السلام. «وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» الجد: 27. لما اقترب موسم الحج كان شوق الحجاج للطواف حول الكعبة المشرفة، وزيارة المسجد النبوي الشريف يزيد يوما بعد يوم. حيث حنت أرواحهم إلى النيل من فيض النور الرباني. وبعدما أن أدوا مناسكهم، وزاروا أماكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتادها، باتت نفوسهم تشتاق ألى الرجوع إلى بلدهم وأهليهم. يذهب المسلمون والمسلمات إلى بيت الله الحرام لإقتباس من روحانيات مناسك الحج وفودا من كل أصقاع الأرض، أجناسا شتى وألسنة متنوعة. تختلف لغاتهم، وملامح وجوههم، لكن قلوبهم تنطق بلغة واحدة، وهي لغة التوحيد؛ لبيك اللهم لبيك. إن جلال وقوف عرفات تشغل خيال الحجاج، وتستجش عواطفهم فيستشعرون نورا ربانيا يسري بداخلهم، فتَنشط أنفسهم، وتشتد عزائمهم. « اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ».
لقد وقف الحجاج في عرفات متوجهين إلى الله تعالى بالذكر والدعاء راحلين من عالم الفوارق الإجتماعية إلى عالم التجرد والتقشف. وقف الحجاج في عرفات وفي مشعر الحرام في سكينة وخضوع تحت أديم السماء يتأملون في حقيقة وجودهم، حيث تركوا مألوفات الحياة ليسأل كل واحد منهم نفسه عن مقصد وجوده في الحياة الدنيا. تشكل هذه القضية الجوهرية تحديا كبيرا لكل إنسان. إن الحياة بأنماطها الإستهلاكية، تستنزف طاقة الإنسان من غير أن تلبي له أشواقه الروحية، وتحقق له غاية وجوده. لقد عاش الحاج تجربة الحياة البدائية، متجردا من كل أسباب الزينة والتنعم. كلما نظر حول الجهات الأربعة يرى جماهير من الناس يصلون ويقرؤون القرآن ويذكرون الله تعالى، تَفَكر في قوله تعالى: « أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ» المؤمنون:115. سياحة وجدانية في مهبط الوحي في أجواء روحانية مشرقة تستنطق رحلة الإنسان عبر الزمان. يقف الحجاج عند كل واقعة تاريخية، وشعيرة إسلامية وقفة النتأمل. فيستحضرون في كل منسك من مناسك الحج ذاكرة الماضي؛ ذاكرة تلقي النبي صلى الله عليه وسلم بداية الوحي في غار حراء؛ « قْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ» العلق: 1. حيث أن القراءة هي مفتاح كل المعارف، وهي التي تساهم في رفع من مستوى شخصية الإنسان.
يستحضر الحجاج عند دخول مكة ذاكرة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، إذ يخاطب الذين أخرجوه من مسقط رأسه بعدما أن تمكن منهم بقوله: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطُّلَقَاءُ » ابن هشام. معشر الإخوة والأخوات من منا يقتدي بتسامح النبي صلى الله عليه وسلم وحسن خطابه. كما يستحضر الحاج والحاجة ذاكرة هاجر وهي تسعى بين جبلي الصفا والمروة ناظرة إلى كل جهة لعلها ترى من تجد عنده شربة ماء تسقي بها ولدها. يستحضر الحجاج في عرفات مناظر الواقفين والجالسين بعرفات عبر العقود والقرون الماضية. ترى في عرفات أبدانا مقشعرة، وأعناقا مُشَرئبة إلى السماء بأيد ممدودة، وقلوب خاشعة، ودموع نازلة، وألسنة لاهجة بالذكر والدعاء أملا في رحمة الله تعالى ورجاء في عفوه. لقد عاد حجاجنا إلى بلدهم وأهليهم بإذن الله تعالى بحج مبرور، وسعي مشكور، وذنب مغفور. حيث كانت رحلتهم رحلة زهد، وصفاء للروح، وتهذيب للسلوك، وتذكر للآخرة. «ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَٰتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِى ٱلْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍۢ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ ۚ وَٱتَّقُونِ يَٰٓأُوْلِى ٱلْأَلْبَٰبِ» البقرة: 197.