الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
تبلغ عدد ساعات الصيام في هذه السنة نحو 19 ساعة، لذا فعلى الصائم أن يتنبه إلى ما يحقق توازن صحته أثناء الصيام، وخاصة المرضى وكبار السن. فليحرص الصائم على تناول السحور بانتظام، وتناول الأطعمة التي تحتوي على كافة العناصر الغذائية، ليعوض ما يفقده الجسم من التوازن الغذائي خلال ساعات الصيام. ينصح خبراء التغذية والصحة بضرورة تناول مختلف أصناف الطعام دون الاقتصار على نوع واحد فقط، وعدم كثرة الطعام، ويجب التقليل من الدهون المشبعة. تعني التغذية الصحية إحداث توازن بين تناول البروتينات، والكربوهيدرات، والدهون الغير المشبعة، وشرب كمية كافية من الماء. وبالنسبة للذين يعانون من مشاكل صحية، يجب عليهم استشارة الطبيب قبل أخذ القرار بالصيام، حتى لا تحدث لهم مضاعفات وأضرار صحية خلال شهر رمضان المبارك. فمن رحمة الله تعالى بنا أنه فرض الصيام، وخصه بكل مقيم قادر صحيح، فخفف على كل مريض ومسافر وعاجز بسبب كبر السن أو بسب من الأسباب الأخرى. فالقرآن الكريم صريح في ترخيص للمريض العاجز عن الصيام بالفطر، وله أن يطعم عن كل يوم أفطره مسكينا. قال الله تعالى: «فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ» البقرة: 184. ان للصوم مراتب أدناها الكف عن الطعام والشراب والعلاقة الحميمية، وأوسطها صيام الجوارح، وأعلاها صيام القلوب. فصيام الجوارح هو أن يصوم اللسان عن بذيء الكلام، وقول الزور، والكذب، والغيبة، والسب، وتصوم العين عن النظرات المحرمات، والأذن عن سماع ما يبغض الله تعالى، واليد عن سرقة أموال الناس، والبطش بهم، وتصوم الرجل عن المشي إلى أماكن يبغضها الله تعالى، في هذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلاَّ الْجُوعُ …» ابن ماجه. وصيام القلب يكون بتطهيره من الإعتقادات الباطلة، والنوايا السيئة، والكبر والحقد. عن عبد الله بن عمرو قيل يارسول الله: «أَىُّ النَّاسِ أَفْضَلُ قَالَ: كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ. قَالُوا صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ قَالَ: هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ لاَ إِثْمَ فِيهِ وَلاَ بَغْىَ وَلاَ غِلَّ وَلاَ حَسَدَ» ابن ماجه. بمراتب الصيام الثلاثة يكسب المسلم والمسلمة القلب التقي، والخلق النقي، والعقل الذكي، والجسد الفتي، وببركته يرتقي الصائم إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات. فاحرص أيها المسلم وأيتها المسلمة على تحقيق هذه المعاني الربانية في حياتك اليومية.
إن القلب هو محل الإيمان والتصديق، ونظر الله تعالى، لذا ينبغي للمسلم أن يهتم بجوهره قبل مظهره. فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إِلَـى صُوَرِكُمْ وَأمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَـى قُلُوبِكُمْ وَأعْمَالِكُمْ »مسلم. بفضل بركة الصيام يصبح قلب الصائم يضيئ كالمصباح، ويلمع كالقمر، وبروحانيات رمضان يُعود الصائم نفسه على التغيير، ويُدرب عقله على التجديد. يمتلك رمضان مقومات تؤهل الصائم للسمو الأخلاقي، والإرتقاء الروحي. إن فطرة الإنسان تحب من يتصف بالأخلاق الفاضلة، فترى الإنسان يحب الأمين الصادق العفيف الخلوق، ويكره الخائن الكاذب الفاحش البذئ. والإسلام يحب الصفات الفاضلة ويكره الصفات البذيئة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَيَبْغَضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ» الترمذي. يوجه الإسلام الإنسان إلى السمو الأخلاقي الواقعي الذي يطمح إليه كل إنسان. فالإنسان في واقعه يحب العدل والأمانة، والإسلام يأمر بذلك قال تعالى: « إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً» النساء: 58. ففي رمضان تشعر نفس الصائم بالأنتصار على هواها ورغباتها، وإنها لتصل في رمضان إلى حالة خلاقة من الإزدياد الإيماني، والإرتقاء النفسي، والإصلاح الفكري. خلق الله تعالى الإنسان من الطين، ونفخ فيه نفخة من روحه. فالطين يشد الإنسان إلى الرذائل، والروح الإلاهي تجذبه إلى الفضائل. ففي رمضان ينتصر الروح على المادة، ويرتقي المسلم والمسلمة بصيامهما وصلاتهما وصدقتهما في منازل المتقين، حيث يتدربان فيها على أعظم القيم، وأرفع المعاني. قال الله تعالى: « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» البقرة: 183.
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
معشر الإخوة والأخوات:
يهدف الإسلام إلى إنقاذ الإنسان من حضيض البهيمية والشيطانية والغضبية إلى الصفاء والنقاء الروحي والفكري والجسدي. إن المسلم الذي يقهر نفسه، ويصبر على الجوع والعطش في رمضان، خليق بأن يكون عضوا فعالا في بناء وإصلاح مجتمعه. يكشف لنا الصيام أيضا عن معنى من معاني الإعجاز في النفس البشرية، وخصوصا القدرة الداخلية للإنسان والوقاية من الشكاوي النفسية التي تسيطر على الإنسان بسب التخمة، وأحاديث النفس، أو وساوس الشيطان. «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا» الشمس: 7- 10. فالإرتقاء النفسي يعني الإبتعاد عن كل ما يعيب نفس الإنسان، ويسبب لها الذل والهوان. عندما تتحرر النفس البشرية من أسر شهواتها المادية، وتغذي روحها بذكر الله تعالى وعبادته، حينها يعيش الإنسان حياة مليئة بالحب والوئام والإطمئان. ففي رمضان يهب نسيم السحور بأنين التائبين، وأنفاس المحبين، وأصوات المبتهلين، ودويّ الذاكرين. ومن مزايا الصيام هو تطهير الجسد من آثار الطعام الزائد، ومساعدته على التخلص من السموم. بفضل بركة الصيام يكسب المسلم مهارة الإرادة، وملكة الصبر، وبه يكشف أيضا حقيقة قوته الداخلية. إن قوة الإرادة والعزيمة هي التي تمكننا من التغلب على مغريات الدنيا، والإنتصار على العواطف السلبية.