الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
لقد أنعم الله على مملكة سبإ -اليمن حاليا- بالخيرات والمسرات، بلدة سبإ كانت أرضا خصبة، ومزهرة بالخير الوفير. قد ارتقى أهلها في سلم الحضارة، فبنوا سدا عظيما بين الجبلين. تنحدر إليه المياه من قمم الجبال. خزنوا فيه المياه بكميات عظيمة، واطلقوا عليه سد مأرب، وهو من أقدم السدود في العالم. بدأ سكان سبإ يمارسون الري والزراعة، حتى وصلوا إلى مستوى عال من إلإزدهار. يقص علينا القرآن الكريم آثار رخاء سد مأرب ونعمه الوفيرة. قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ 15» أي حديقتين عن يمين الوادي وشماله، تجري في كل واحدة منهما جداول من الماء، فتثمر أشجار الفاكهة، وتزهر نباتات الخضروات. كان أهل سبإ يمشون في جنبات الحديقتين، فيقطفون من كل ما لذ وطاب من ثمارهما. فكانت هذه النعم تذكرأهل سبإ بالمنعم الوهاب سبحانه وتعالى، فيقابلونها بالشكر والعرفان. إن النعمة كما قال الإمام علي كرم الله وجهه “موصولة بالشكر، والشكر متعلق بالمزيد، ولن ينقطـع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العبد”. قال الله تعالى: «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ » إبراهيم: 7. فالشكر هو عرفان الإحسان. ولابن القيم رحمه الله تعالى وصف جميل للشكر، قال : «الشكر ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده؛ ثناء واعترافا، وعلى قلبه شهودا ومحبة، وعلى جوارحه أنقيادا وطاعة» مدارج السالكين. وقد أحسن من قال الشكر لمن فوقك بالطاعة، ولنظيرك بالمكافئة، ولمن دونك بالإحسان. وصف الله تعالى بلدة سبإ بالطيبة، كان كل شيء فيها طيب، ولقد نال أهلها غاية ما يتمناه الإنسان في حياته من نقاء الهواء والبيئة، وما لذ من الطعام والشراب، وما طاب من الملبس والمسكن. كانت مساكنهم غاية في الجمال، وبلدتهم غاية في الأمن والأمان، بنوا سدا يحجز عنهم المياه النازلة من الجبال، فلا تهددهم الفيضانات ولا السيول، ولا شيئ يخيفهم أو يقلقهم. شكروا المنعم حق الشكر، وعبدوه حق العبادة. اسسوا معاملتهم على مبدأ العدل والمساواة، وأقاموا نظامهم على مبدأ الكرامة الإنسانية، فوفقهم الله تعالى ومكنهم لإخراج ما في باطن الأرض من الخيرات، ففازوا بوعد الله تعالى، وعاشوا عيشة رخاء وأمن. قال الله تعالى: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ، وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ، وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ، وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» النور: 55. بالشكر لله تعالى وإقامة العدل بين الناس فازأهل سبإ بكرامة الحياة في الدنيا، ومغفرة الله تعالى في الآخرة. قال الله تعالى: «كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ». رب غفور، يستر أخطاء المستغفرين، ويتجاوز عن ذنوب التائبين، مهما كان مقدرها، ومهما تمادت النفس في عصيانها، وتكرارها في الوقوع في المعاصي. قال الله تعالى: «وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحًا ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ» طه: 82. مع مر الزمان والسنين ابتعد خلف سبإ عن منهج وطريق أسلافهم، فأعرضوا عن طاعة الله تعالى، وصدوا عن اتباع رسلهم، وحكموا مملكتهم بالظلم والطغيان، فكانت بداية نهاية رفاهيتهم، وبوادر الخراب والدمار لمملكتهم. في يوم من الأيام أصبحت شقوق في سد مأرب العظيم، ففاض الماء على مزارعهم فدمرت املاكهم وبيوتهم. فانقلبت مملكة سبإ من بلدة حيوية مزدهرة إلى بلدة اشباح وخراب. معشر الإخوة والأخوات هذا هو نتيجة من يبتعد عن طريق الهدى، ومن يسيئ فهم منهج السوي للحياة. تروي قصة سبأ تجربتين، الأولى: رعت بلدة سبإ حقوق الله وحقوق العباد فتنعمت بالخيرات الزراعية والثرواة الحيوانية. والتجربة الثانية: أهملت مملكة سبإ حقوق الله تعالى وحقوق العباد فتحولت من مجتمع يزدهر في خيرات أرضها إلى مجتمع منكوس . قال الله تعالى: « فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ » سبأ: 17. وما انطبق على سبإ كمملكة، ينطبق أيضا على فرد من الأفراد. يؤكد القرآن الكريم على الوعد الإلاهي أن الحياة الكريمة تكون لمن اتبع هدي الله ونوره، وإن مفتاح التغيير هو بأيدينا. لن يتغير واقعنا إلا بعد ما أن نغير ما بأنفسنا من أفكار وسلوك إما سلبا أو إيجابا. إن الأمر قد ينفلت من أيدينا إن لم ننتبه من غفلتنا، ونصحوا من سباتنا. قال الله تعالى: « إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ » الرعد: 11.