الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
يسأل مسلم: ما مصير القلب، أو الكلية أو أي عضو من أعضاء جسم المسلم إذا زرع في جسم غير المسلم أو المسلم العاص، هل تعذب؟ بادئ ذي بدء، خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وجعل خلقه آية على عظيم قدرته، وبديع صنعه، ولهذا يأمر الله الإنسان بالنظر والتأمل في أصله لعله يدرك بذلك معرفة ربه، وحقيقة وجوده. قال الله تعالى: « فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ *يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ *إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ* يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ» الطارق: 5-10. لقد وردت في القرآن الكريم وفي السنة النبوية نصوص تعين الإنسان للوقوف على حقائق علمية كونية، منها ما توصل اليه العلم الحديث، ومنها ما هو مهمل في أمهات الكتب، ولم يهتم أحد من الباحثين المسلمين بدراستها. ومن هذه المسائل العلمية التي تناولها القرآن الكريم وبينته السنة النبوية مسألة خلق الإنسان، وموته، وإحيائه بعد أن يبلى جسده، ويصبح ترابا رميما. إن الميت تتفسخ خلاياه، ويفنى هيكله العظمي بعد مدة تختلف بحسب التربة، والعوامل المحيطة به من رطوبة وحرارة وتهوية، ولا يبقى منه سوى عجب الذنب كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَأْكُلُهُ التُّرَابُ إِلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ مِنْهُ خُلِقَ وَفِيهِ يُرَكَّبُ» مسلم. وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ فِي الْإِنْسَانِ عَظْمًا لَا تَأْكُلُهُ الْأَرْضُ أَبَدًا فِيهِ يُرَكَّبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالُوا: أَيُّ عَظْمٍ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: عَجْبُ الذَّنَبِ» مسلم. عجب الذنب هو آخر عظمة في أسفل العمود الفقري، ويسمى أيضا العُصعُص. ان عجب الذنب سر من أسرار الله تعالى، ومعجزة من معجزاته الدالة على عظمة المولى سبحانه وتعالى، وقدرته على إعادة الخلق منه يوم القيامة. «كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ« الأنبياء: 104.تنص الأحاديث النبوية الشريفة على أن عجب الذنب هو أصل الإنسان، وأنه لا تأكله الأرض، و أن الله تعالى يعيد خلق الإنسان منه يوم القيام.
والسؤال الذي طرح ما مصير أعضاء المسلم المزروعة في أجسام ناس آخرين؟ وفي المقابل يمكن كذلك أن نسأل ما مصير أطراف الجسد المبتورة، والمتفرقة في البحار، و التي أكلتها السباع؟ إن القرآن الكريم يؤكد أن الله عز وجل يعيد يوم القيامة كل عظمة وعضو، وكل ما تفرق في البحار والجبال، وكل ما أكله السباع إلى خلقتها الأولى. «كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ«. وإن قوله تعالى: – «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» البقرة: 260.- يعطي لنا صورة واضحة حول قدرة الله تعالى على إلتئام ما تفرق من أعضاء جسد المخلوقات في البر والبحر. ذبح الخليل عليه السلام الطيور وجعلها قطعة قطعة، ووضع على رأس كل جبل قطعاً مختلطة. قال ابن عباس: وأخذ رؤوسهن بيده، ثم أمره الله عز وجل أن يدعوهن، فدعاهن كما أمره الله عز وجل، فجعل ينظر إلى الريش يطير إلى الريش، والدم إلى الدم، واللحم إلى اللحم، والأجزاء من كل طائر، يتصل بعضها إلى بعض، حتى قام كل طائر على حدته، وأتينه يمشين سعياً (تفسير ابن كثير). ويروي الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كَانَ رَجُلٌ يُسْرِفُ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ لِبَنِيهِ إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اطْحَنُونِي ثُمَّ ذَرُّونِي فِي الرِّيحِ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَىَّ رَبِّي لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا. فَلَمَّا مَاتَ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ، فَأَمَرَ اللَّهُ الأَرْضَ، فَقَالَ اجْمَعِي مَا فِيكِ مِنْهُ. فَفَعَلَتْ فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ، فَقَالَ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ قَالَ يَا رَبِّ، خَشْيَتُكَ. فَغَفَرَ لَهُ» البخاري.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
معشر الإخوة والأخوات:
فإذا جاء يوم القيامة أمر الله تعالى أجزاء الأجساد التي صارت ترابا، والتي أكلتها السباع، والتي تفرقت في البحار أن تلتئم بأجسامها، فتسري إليها أرواحها، ثم يبعثها الله تعالى كما خلقها أول مرة. وصدق الله العظيم إذ يقول: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ إنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ» يس: 51-52. قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى تعليقا على هذه الآية: إن بعثهم وإحياءهم كان بصيحة واحدة، وهي قول إسرافيل: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، والشعور المتمزِّقة! إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء. (الجامع لأحكام القرآن، للإمام محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي). لقد ألهم الله تعالى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم النطق بحقائق علمية لينور بها عقول الإنسانية، وتشهد له أيضا بصدق نبوته. ولقد تمكن العلماء من ملاحظة أن الإنسان يبدأ خلقه وتركيبه بقدرة الله تعالى في بداية الأسبوع الثالث من تلقيح البويضة، وانغراسها في جدار الرحم، وأثبتوا أن جسد الإنسان ينشأ من شريط دقيق سموه الشريط الأول، وهو عجب الذنب الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث. أعطى الله لهذا الشريط الدقيق القدرة على تخليق جميع خلايا الجنين، وإنه يبقى محافظاً على خواصه حتى لو تعرض للحرق أو الطحن (د محمد على البار). وأن هذا يدل على أن الإسلام دين العلم، ودين الحضارة، ودين السلام. بعيدا كل البعد عن الخرافة، والجهل، التحريض على الكراهية، أو العنف ضد الناس بسبب معتقداتهم الدينية أو قناعاتهم الفكرية. إن فناء الأجسام محاط بعلم الله تعالى، فهو يعلم ما صار منها ترابا، وما تفرق منها في البر والبحر. قال تعالى ردا على الذين ينكرون البعث، وتأليف الأجساد، ورد الأرواح إليها: «أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ۖ ذَٰلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ. قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ ۖ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ » ق: 3-4. وقال تعالى: « وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ» الأنعام: 59.