الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
إن من فضائل الأعمال التي يحبها المولى عز وجل الإحسان إلى الوالدين، وبها أوصى القرآن الكريم الأبناء. «وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا» الإسراء:23. يؤكد القرآن الكريم على أن علاقة الأبناء بوالديهم قائمة على الإحسان إليهم، وإلانة الجانب لهما. وبر الوالدين يعني العناية بهما، والقيام بمصالحهما بكل وسيلة ممكنة بالجهد والمال، وخاصة عندما يشتعل رأسهما شيبا، وتأخذ الشيخوخة منهما قوتهما. يفرض علينا الإسلام رعاية الوالدين ردا للجميل الذي قدموه لنا في الصغر. إن الوالدين هما أصل المجتمع، وعماده، فهما أساس استمرار الحياة، والحارسان على راحة الأولاد. بمجرد ما يتم تلقيح البويضة بالحيوان المنوي يبدأ اهتمام الوالدين أولا بالحمل والسهر على حمايته، ثم بالحضانة عند ولادته. فالأم في المقام الأول تتعرض لمتاعب الحمل المختلفة، والتغيرات الجسدية المتواصلة، واضطراب الهرمونات. «وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا» الأحقاف: 15. تتحمل الأم الوجع والألم، وتنتظر بفارغ الصبر كي ترى وليدها بين ذراعيها لتضمه في حضنها. وفي المقام الثاني ترى الأب يراقب الجنين بمراقبة ظهور بطن زوجته الحامل. وهو أيضا يفرح براحة زوجته الحامل ويألم بآلامها. وكلاهما يفرحان بأخبار السارة التي يدليها لهما طبيب النساء، ويقلقان إذا ما أصاب الجنين مرض أو تشوه يهدد صحته. لذلك يعتبر الإسلام الإحسان إلى الوالدين من أفضل الأعمال التي يتقرب الإنسان بها إلى الله تعالى. قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ) رواه مسلم. برغم كل آلام الحمل والولادة وكل ما يعيشه الأبوين أثناء الحمل، وبمجرد أن يولد المولود، وتضمه الأم إلى صدرها ترى إشراقات الفرحة تنسي كل الآلام التي عاشتها الأم أو كلاهما أثناء الحمل. وخلال فترة الحضانة يزود الوالدين المولود من الحنان والحب ما يكفيه طوال عمره. إن النفوس تجبل على شكر من أحسن إليها، والقلوب تتعلق بمن تفضل عليها، وليس في الناسِ أعظمُ إحسانًا ولا أكثرُ فضلًا من الوالدين. وليس في الدنيا من يستحق الشكر والتقدير منهما. «وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ» لقمان: 14.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
معشر الإخوة والأخوات:
إذا وضعت الأم مولودها يأتي دور الحضانة، فيقوم الأبوين بتوفير للمولود كل ما يغذيه روحيا من الحب والحنان، وجسديا من النظافة والملبس والطعام، وصحيا برعايته من الأمراض ومن كل ما قد يسبب له أذى. يسهر الوالدين على تربية أبنائهم، ويقومان على تعليمهم حتى يكون لهم مستقبل زاهر. فاجتهد أيها المسلم وأيتها المسلمة في الإحسان إلى والديك لعلك تستطيع أن نوفيهما شيئا مما فعلوه من أجلك. تتوالى السنين ويكبر المولود، وكلما زاد عمر يزداد أيضا تعلق قلب الأم والأب به أوبها حتى تصبح علاقتهما بأبنائهما علاقة عاطفية. إن عاطفة الأمومة والأبوة هي عاطفة نبيلة ومفيدة، ولكن ليست مطلقة، بل هي مقيدة بضوابط وحدود. فكلما كبر الإبن أو البنت ازداد ستقلاله بذاته عن تدخل الوالدين في شؤونه أو شؤونها. يعاني كثير من الأبناء والبنات من عاطفة الوالدين المفرطة. حيث تدفع العاطفة الأم أو الأب التدخل في حياة الإبن أو البنت الشخصية والزوجية. يسأل بعض الشباب السؤال الآتي: ليست لي مشكلة مع زوجتي، ولكن أمي أو أبي يأمرني أن أطلق زوجتي، فماذا أفعل؟ يقول الله تعالى:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ» المائدة: 8. إن القرآن الكريم يعلمنا مراعات العدل في تصرفاتنا اليومية، وفي حياتنا الزوجية. لقد وصف الله عز وجل عقد الزواج بالميثاق الغليظ. قال الله تعالى: «وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا» النساء: 21. لا يجوز أن نترك هوى الأم أو الأب يعبث بهذا الميثاق الغليظ.، وبحياة الأسرة المسلمة. لقد أمرنا الله عز وجل بالإحسان إلى الوالدين، لكن هذا الحق العظيم لا يسمح لا للأم ولا للأب أن يخرب حياة ابنهما أو بنتهما الزوجية، ويجعل أحفادهما يعيشون شقاق الطلاق. قال الله تعالى: «وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا» لقمان: 15. إن مراعات التوازن بين حقوق الوالدين وحقوق الزوجية يحمي الناس من كثير المشكلات الأسرية والإجتماعية. وفي الأصل أن القرآن الكريم جعل الوالدين حماة حياة أبنائهم الزوجية. فدورهم دورالمصلح للبيت الزوجية في حالة الشقاق وسوء التفاهم بين الزوجين. قال الله تعالى: «وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا» النساء: 35.