الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجَنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
من خصائص الحياة الدنيا أن الإنسان قد يصاب فيها بمرض في بدنه، أو نفسه، أو يتعرض بفقد أحد أعزائه. فالحياة مبنية على تقلب أحوال الإنسان الصحية والأسرية والإجتماعية، ولا يطمع أحد أن يخلص من المصائب، فهو يتقلب بين نعمة يتلذذ بحلاوتها، ومصيبة يتجرع مرارتها. وحياة الدنيا ما هي إلا معبر شاق إذا لم يقم المرء باعداد نفسه للتعامل مع ما يصيبه فيها. لقد ألقي في النار الخليل ابراهيم عليه السلام، وقاس ألم المرض أيوب عليه السلام، وتجرع محنة السجن يوسف عليه السلام، وذاق أنواع الأذى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. إن للمصيبة المفاجئة روعة تزعزع القلب وتزعجه. الزمان لا يثبت على حال لأحد، فهو في تغير مستمر. قال الله تعالى: «وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ» آل عمران: 140. فمن لازم طاعة الله تعالى، فإنه لا يرى في الضيق إلا السعة، ولا في المرض إلا العافية، والمقدور لا حيلة في دفعه، وما لم يُقَدر لا حيلة في تحصيله، فالجزع ضرره أقرب من نفعه. قال الله تعالى: « قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» التوبة:51. وكن أيها المسلم وأيتها المسلمة ناظرا إلى أن الله تعالى هو الحكيم في تدبيره، والعالم بمصالح عباده. فعليك بحسن التوكل فيما لم تنل، وحسن الرضا فيما أصابك، وحسن الصبر فيما فقدت. لما فقد سيدنا يعقوب عليه السلام ولديه يوسف ثم بنيامين، وطال غيابهم، لم ييأس من الفرج، ولم ينقطع أمله، بل ضل ينتظر حتى فرج الله كربته: «قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ » يوسف: 83.
معشر الإخوة والأخوات:
تأملوا معشر الإخوة والأخوات حالة أب أو أم مهموم، غرق في خزن عن إبنه المفقود، ينتظر أي خبر يُدخل عليه الفرحة، ومن حوله أهل يلاحقونه بكلام يزيد له بؤسا وحزنا، ولعل مرادهم تيئيسه حتى يكف عن أمر طال رجاؤه حتى أضر به. فارادوا أن يقول له انس يوسف، فان ذكرك له سيضرك في صحتك، «قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ»يوسف: 95. وهذا هو شأن حال كثير من الناس اليوم، فكثير من الناس من يحاول أن يقدم نصائح للمريض أو لأهله، ومنهم من يحكي آلآمه وأمراضه للمريض، فيضيف إلى مصيبته مصيبة ثانية، وإلى حزنه حزنا آخر. فالذي ينبغي هي مواساته، وتخفيف آلآمه بالكلمة الطيبة، وبث فيه روح التفاؤل، ورفع روح معنوياته. قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: «إإِذَا دَخَلْتُمْ عَلَى الْمَرِيضِ فَنَفِّسُوا لَهُ فِي أَجَلِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَرُدُّ شَيْئًا، وَيُطَيِّبُ نَفْسَهُ»الترمذي. أراد الله عز وجل أن يفرج كربة سيدنا يعقوب عليه السلام، فأرسل سيدنا يوسف عليه السلام أخاه إلى أبيه ومعه قميصه ليلقيه على وجه أبيه. قال السدي: «قال يهوذا: أنا ذهبت بالقميص ملطخا بالدم إلى يعقوب فأخبرته أن يوسف أكله الذئب، فأنا أذهب إليه اليوم بالقميص فأخبره أن ولده حي فأفرحه كما أحزنته» البغوي. «فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا ۖ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ» يوسف: 96. فما أسرع تقلب أحوال الدنيا وتبدلها، فهي محفوفة بالأفراح والأحزان، و محاطة بالسكينة والآلام. فهي لا تستقر لأحد بحال، فحوادثها تنبه الغافل من غفلته، وتوقظ صاحب هفوة من هفوته، وتزيد للمسلم يقينا في الله تعالى. ضرب الله مثل تغيرات الدنيا بالأرض القاحلة اليابسة التي يصيبها المطر، فتَنبُت فيها الأعشاب، وتزهو بالزهور المختلفة التي تسرُّ الناظر، وتأخذه بالإعجاب، وسرعان ما تتغير خضرتها بالصفرة، وبهجتها بالكدرة؛ قال تعالى: «وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ» الكهف: 45.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
معشر الإخوة والأخوات:
فكل إنسان ينعم بحلاوة الدنيا حينا، ويتجرع مرارتها حينا آخر. يبتلى الإنسان بالفتن في السراء، والمحن في الضراء ليهذب لا ليعذب. «وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» الأعراف: 168. فوطن نفسك أيها المسلم وأيتها المسلمة على ما يصيبك، ليهن عليك وقوعه، ولا تجزع بالمصاب فعسى أن تأتيك المسرة من جانب المضرة، مصداقا لقوله تعالى: «وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ» البقرة: 216. فمن تكالبت عليه مصائب الدنيا، وحس أن المسالك قد أغلقت في وجهه، فليرفع أكف الضراعة، وليلتجئ بقلب خاشع إلى السميع البصير، فيسأله أن ينفس كربته، ويفرج همه، ويشفي مرضه، «أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ» النمل: 62. فللإنسان في المصائب أربع مقامات كما حدد ذلك ابن القيم رحمه الله تعالى:
أحدُها: مقامُ العجزِ، وهو مقامُ الجزعِ والشَّكوى والتَّسخُّطِ.، وقد قيل : من ضاق قلبه اتسع لسانه.
المقامُ الثَّاني: مقامُ الصَّبرِ. «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ. أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» البقرة: 155، 156.
المقامُ الثَّالثُ: مقامُ الرِّضى، وهو أعلى من مقامِ الصَّبرِ. « قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ» الأنعام: 162. وقال صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاَءِ وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ» الترمذي.
المقامُ الرَّابعُ: مقامُ الشُّكرِ، وهو أعلى من مقامِ الرِّضى، إن الشكر يمنح الإنسان الطمأنينة، ويريح أعصابه، ويقوي من مناعة جسمه، كل هذا يعزز من صحة الإنسان. قال تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ» لقمان: 12. وقال سبحانه: «وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ» آل عمران: 145. قال سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «إن النعمة موصولة بالشكر، والشكر يتعلق بالمزيد، وهما مقرونان في قرَن، فلن ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العبد.»
المراجع
- شعب الإيمان للإمام أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي (المتوفى: 458هـ).
- معالم التنزيل (تفسير البغوي) للإمام الحسين بن مسعود البغوي.
عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين للإمام محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ).