الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، وبها ترفع الدرجات، وبها يرتقي الإنسان عن الهفوات، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
قال تعالى: وَأَقِمِ الَّصلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ 114 وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ 115هود. يرشد الله تعالى في هذه الآية المؤمنين والمؤمنات إلى غذاء الروح، ويحث فيها الذاكرين الراشدين بافتتاح يومهم وختمه بالصلاة، لأن الصلاة تطهر النفس وتزكيها، وتغذي الروح وتنشطه. لقد جعل الله الصلاة عهدا بينه وبين عباده، فكلف أنبيائه ورسله، بأن يدعوا أقوامهم الى اقامة الصلاة باعتبارها، وسيلة من وسائل الإستعانة على تخفيف متتاعب الحياة، وتغلب على مشاكلها، ودفع هوى النفس نحو الخير.أمر الله المسلمين بالصلاة في مواضع عديدة من القرآن الكريم. قال تعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ .151 فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ 152. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ . 153البقرة. فالمقصد من تلاوة القرآن، هو تزكية الأنفس، واكتساب الحكمة، والإنضباط الذاتي. فالحكمة ترشدنا الى السلوك الحسن، والإلتزام بالمبادئ الأخلاقية. قوله سبحانه: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ» اذكروني بالطاعة اذكركم بالثواب والمغفرة. بالصلاة تُنَور القلوب، وتَنشرِح الصدور. قال رسول الله عليه وسلم: «من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة …..» وفي مجالس الذكر تنزل الرحمة على الذاكرين والذاكرات، وتغشاهم السكينة، وتحفهم الملائكة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلاَّ حَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» مسلم.
ان الصلاة هي أم العبادات وهي الطريق إلى تقوية الصلة بالله ومناجاته، وهي سبيل تفريج هم المهمومين، وكشف كرب المكروبين. إن الصلاة هي قرة عُيون المحبين، و بستان الزاهدين، و راحة نفوس السالكين. لعظمتها وقدرها جعلها النبي صلى الله عليه وسلم قرة عينه. و تأملوا معي قوله صلى الله عليه وسلم : « وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاَةِ » النسائي. فكان صلى الله عليه وسلم يجد الأنس والطمأنينة والسكينة في الصلاة. قال ابن حجر رحمه الله: «من كانت قرة عينه في شيء، فإنه يود أن لا يفارقه ولا يخرج منه؛ لأن فيه نعيمه، وبه تطيب حياته، وإنما يحصل ذلك للعابد بالمصابرة على النصب». بعد الجهد والتعب يحتاج الإنسان الى أوقات يخلوا بها الى ربه باحثا عن السكينة والطمأنينة. لأجل هذا كان صلى الله عليه وسلم يقول: «يَا بِلاَلُ أَقِمِ الصَّلاَةَ أَرِحْنَا بِهَا » أبو داود. الفرق كبير بين أرحنا بها، وأرحنا منها. فالذي يرى الصلاة عبء يقول أرحنا منها، وأما من يدخل في الصلاة فينسى هموم الدنيا، ويفرغ قلبه لمناجاة ربه. إنه يجد فيها راحة للنفس، وقوة للقلب، وانشراحاً للصدر، وتفريجاً للهم، وكشفاً للغم، فيقول أرحنا بها. والصلاة وسيلة تربوية تجعل المصلي يبتعد عن كل ما ينافي كرامة الإنسان، وعن كل ما ينافي مكارم الأخلاق، وهي ميزان أحوال السالكين. قال تعالى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَالعنكبوت: 45. يضرب الله في القرآن المثل لنتيقن ونطمئن الى عظيم أثر الصلاة في واقع حياتنا. كما أن للصلاة شروط الصحة، لها أيضا شروط القبول. قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: « إنَّما أَتَقَبَّلُ الصَّلاةَ مِمَّنْ تَواضَعَ بِهَا لِعَظَمَتى ، وَلَمْ يَسْتَطِلْ عَلى خَلْقِى، ولَمْ يَبِتْ مُصِرًّا عَلى مَعْصِيَتى ، وَقَطَعَ نَهَارَهُ فِى ذِكْرِى ، ورَحِمَ المسْكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ والأَرْمَلَةَ، ورَحمَ المُصَابَ، ذلِك نُورُهُ كَنُورِ الشَّمْس، أَكْلَؤُهُ بِعِزَّتى، وأَسْتَحْفِظُهُ مَلائِكَتى، أَجْعَلُ لَهُ فِى الظُّلْمَةِ نُوراً، وَفِى الْجَهَالَةِ حِلْماً، وَمَثَلُهُ فِى خَلْقِى كَمَثَلِ الْفِرْدَوْسِ فِى الْجَنَّةِ » البزار. فكل مسلم ومسلمة يصلى ولا يرى أثر الصلاة في تصرفاته وعلاقاته، و لا يرى استقامة في سلوكه، وحسن معاشرته للناس، فعليه ان يراجع نفسه، ويراجع صلاته، ويعمل على اصلاح نفسه، ويعيد النظر في كيفية أدائه لصلاته. إن المصلي الذي تنفعه صلاته يظهر أثارها عليه في سلوكه وتصرفاته.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
قال الله تعالى: قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌابراهيم 31 . في القرآن الكريم عشرات من الآيات الدالة على مكانة الصلاة وفضلها. ان شعيرة الصلاة تحتوي على معنويات روحانية، ودلالات وجدانية. ترتبط أداء الصلاة بحركات جسدية وأقوال باللسان وانتباه للذهن، فتؤثر ظاهرا وباطنا على المستويات الروحية والعقلية والجسدية، فمضمون الصلاة لا تنظم علاقة الإنسان بربه فحسب، بل هي تنظم أيضا علاقة الانسان بنفسه أولا، وبأخيه الانسان ثانيا، وبالمخلوقات عامة أخيرا. إن الصفاء النفسي والروحي الذي يكسبه المصلي من صلاته، لابد من استثماره في المجتمع. فالصلاة بمفهومها الحقيقي تحث على التواضع، وعدم الاستعلاء، وعدم الإصرار على ما يبغض الخالق والخلق. فهذا هو أساس الصلاة في جوهرها ومظهرها، وهنا تلتقي مع الغاية التي رسمها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: « إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» الأدب المفرد. فالصلاة تربط بين المسلمين في شتى بقاع الأرض، إذ هم يتجهون كلما صلوا نحو قبلة واحدة، تلتقي عندها قلوبهم ومشاعرهم وأرواحهم، فتتعمق روح الوحدة بينهم وتتوشج صلات الأخوة. قال تعالى: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِإبراهيم: 40.