الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
لقد أكد القرآن الكريم في آيات كثيرة على أهمية تزكية النفس، واهتم اهتماما خاصا بالأخلاق، لذلك نجد أن الآيات ذات المضمون الأخلاقي في القرآن الكريم أكثر بكثير من آيات الأحكام. إن القصص القرآنية والأحاديث النبوية كثير منها مرتبطة بالأخلاق. للنفس البشرية مرتبتان: مرتبة دنيا ومرتبة عليا. فالنفس بمرتبتها الدنيا “تميل إلى الطبيعة البدنية، وتميل إلى الإستمتاع باللذات والشهوات الحسية، وتجذب القلب إلى الجهة السفلية، فهي مأوى الشرور، ومنبع الأخلاق الذميمة” الجرجاني. والنفس بمرتبتها العليا هي انسانية ملكوتية طاهرة. فكلا المرتبتين في حالة صراع وتجاذب دائمين، فالذات البدنية تسعى لإرضاء شهواتها، وأما الذات الروحانية تسعى للسيطرة على الغرائز. فاذا غلب البعد الروحاني ارتقى الإنسان في مدارج الأخلاق، وإذا غلب البعد الغرائزي انحدر في مرتع الرذيلة. لقد وصف القرآن الكريم النفس بثلاث صفات: المطمئنة، واللوامة، والأمارة بالسوء. بالتربية والتهذيب تتدرج النفس في هذه المراتب الثلاثة، وتسمو إلى الصفات الإنسانية المحمودة من معرفة وإحسان وعفو واستقامة وصدق وأمانة. إن الذي يجعل الإنسان إنسانا، ويميزه عن سائر الحيوانات هو بعده الروحي الملكوتي، والتكريم الإلهي له. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطيِّبَاتِ وَفَضلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ الإسراء: 70. إن الإسلام لا يُهمل البعد الغريزي في الإنسان ولكن يهذبه. إن تلبية حاجات البعد البدني من طعام وملبس وإشباع غرائزه ليست هدفا بذاته، بل هو من أجل خدمة البعد الإنساني الكامل.
معشر الإخوة والأخوات:
إن النقص والتقصير والخطأ لا ينفك عن إنسان، ولا يسلَم منه، ففي كتاب الله عز وجل وفي سنة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بيان طريق تزكية النفس، ورفعها من مستوى النقص إلى مستوى الكمال. قال الله تعالى: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ الشمس: 7- 10، وقال عزَّ وجل: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ﴾ الأعلى: 14، 15، وقال سبحانه في خطابِ نبيِّه موسى عليه السلام حين أرسله إلى فرعون، قال: ﴿ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ﴾ [النازعات: 17- 19. منذ أقدم العصور سعى العقلاء في كل الحضارات إلى تزكية النفس وتطهيرها، فسلكوا في ذلك مسالك شتَّى، وشَرَعوا لأنفسهم مناهِج مختلفة، ابتغاء إدراكَ المُنَى، وبلوغَ الآمال في الحَظوةِ بالحياة الطيبة والعَيشِ السعيد. غيرَ أن كل من أُوتي حظًّا من الإنصافِ، لا يجِدُ حرجًا في الإقرار بأن التزكية الحقَّة التي تطيبُ بها الدنيا، وتطمئنُّ بها القلوبُ، هي تلك التي يُبيِّنُها القرآن الكريم والسنةُ النبوية. لقد أرسلَ الله رُسُلَه، وأنزلَ كُتبَه ليُرشِدَ الناسَ إلى سُبُل تزكيةِ أنفسهم وإصلاحِ قلوبهم. جعل الله القرآن الكريم روحا تحيا به القلوبُ، ونورًا تنجلي به الظُّلُماتُ: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52. كما أن تزكية النفس طريق إلى الإطمئنان هي أيضا طريق إلى الجنة: قال الله تعالى: « وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ 40 فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ 41» النازعات. فالمقصود من هذا المبحث هو معرفة الإنسان نفسه: بمعنى أن يعرف الإنسان مقامه في عالم الخلق، فيعلم أنه لم يخلق لأجل أن يعيش حياة حيوانية، بل خلق من أجل أن يحمل القيم، والإنضباط بضوابطها، ويحمل أمانة خلافة الله في الأرض.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
معشر الإخوة والأخوات:
يرسم الإسلام الطريق إلى تكوين الأجيال على الأصالة والتجديد، حيث إنه يُوجه الإنسان إلى الثبات على الثوابت والتجديد في المتغيرات، وذلك حتى لا تنفصل شخصيته عن جذورها التي تشكلها عقيدة الإسلام ومبادئه، وحتى لا يعيش بعيدا عن واقعه. من خلال هذا الإطار الثابت والمرن في نفس الوقت يُقبل المسلم على تقبل روح العصر، والإستجابة لمكونات الإنسان، الجامع بين الجسد المادي والنفس والروح. فعنصر الثبات يتصل بالإنسان وخالقه، وعنصر المتغير يتصل بالإنسان ومحيطه. إن النفس لجوهرة ثمِّينة، يجب تغذيتها بعبادة الله تعالى، فهي تحتاج باستمرار إلى رعاية روحية، وعبادة الله سبحانه وتعالى هي عماد وروح تزكية النفس، وبها يصير الإنسان حبيب الله. قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِي بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ» البخاري. فكلما قويت النفس وتهيأت بالذكر والاستغفار والإنابة، كلما كانت أقدر بإذن الله تعالى على تجاوز العقبات، والتغلب على الصعوبات، فتثبت ولا تتزحزح. قال الله تعالى: «يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ »إبراهيم: 27.