الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، بها ترفع الدرجات، ويرتقي الإنسان عن الهفوات، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
اتقوا الله تعالى واشكروه على ما شرع لنا من الشرائع السمحة، وما خصنا به من المواسم المباركة. عشنا أيام الحج بكل فضائله وروحانياته، وتزود فيه الزهاد بزاد الإيمان والتقوى. قال الله تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌفصلت 53. وعد الله عباده أن يطلعهم على شيء من خفايا الكون، ومن خفايا انفسهم على السواء، حتى يتبين للجميع أن دين الإسلام، وكتاب الإسلام، ونهج الإسلام هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً النساء:87. لقد صدق الله وعده، وبانت طلائعه، فموكب الإيمان لقد انهى اجتماعه في بيت الله الحرام، وأقبل على الرحيل والعودة الى ذويهم. حيث استجابت ملايين من المؤمنين والمؤمنات نداء خليل الرحمن ابراهيم عليه السلام. وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ الحج: 27. ايها الإخوة والأخوات: من الذي جمع هؤلاء الملايين من البشر على اختلاف السنتهم والوانهم، وهم يقولون بلسان واحد « لبيك اللهم لبيك؟ » هؤلاء جاؤا من الغرب والشرق ومن الجنوب والشمال، تركوا اشغالهم واهليهم، وبذلوا اموالا وجهودا ليشهدوا موسم الحج، ويؤدوا مناسكه على الوجه الذي جاء عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – , لينالوا بذلك محبة الله ومغفرته، قال الله تعالى:قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ آل عمران: 31.
معشر الإخوة والأخوات:
ان للحج معان وقيم عاطفية ينبغي ان التوقف عندها، ويجب التأمل جيدا في هذا الجمع الغفير الذي تعجز اي منظمة، أيا كانت على جمعهم. هؤلاء الحجاج اجتمعوا في اماكن لا عمران فيها، ولا هي أماكن ترفيهية. بل هي أماكن توجد فيها قلة الإمكانيات، والطعام، وقلة الملابس. فكل العبادات الإسلامية يطلب من المسلم التجمل لها الا الحج. فأفضل الحجاج الشعث الغبر، وأجمل الحجاج الحفاة، وأعظم الحجاج الجائعون الظمأى. عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ومَاَ مِنْ يَوْم أفْضَلُ عِنْد الله مِنْ يَوم عَرَفةَ: يَنْزِلُ الله -تَبَارْكَ وتَعَالى- إلى السْمَاءِ الدُّنيا فَيُباهي بِأهْلِ الأرض أهَلْ السْمَاءِ، فيقول: انْظُروا إلى عِبَادِي جَاءوا شُعْثًا غُبْرًا حَاجِين جَاءْوا مِنْ كُلِ فجٍّ عَمِيقْ يَرجُونَ رَحْمَتي ولم يَروا عَذَابي، فَلَم يُرَ يومٌ أكثر عتيقًا مِنْ النَّار مِنْ يَوم عَرَفْة» ابن خزيمة و ابن حبان . في مشاعر الحج ترى الظمأى يتدافعون عن الماء، والجوعى يتسابقون بحثا عن الطعام. اطلب الله عز وجل ان يديم علينا نعمه، وان لا يحرمنا من خيراته له الفضل والمنة. فهنيئا لمن وفقه الله لأداء هذه الشعيرة العظيمة وفقا لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وطوبى له برضوان الله تعالى في الدنيا والآخرة. في الدنيا يتغمده الله بالسكينة والطمأنينة، وفي الآخرة يفوز بجنة الرضوان، حيث أخيرنا من لا ينطق عن الهوى أن جزاء الحج المبرور الجنة. قال صلى الله عليه وسلم: « وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ »البخاري. نسأل الله عز وجل أن يرزق حجاجنا حجا مبرورا، وسعيا مشكورا.
خذ القناعة من دنياك وارض بها
لو لم يكن لك الا راحة البـــــــدن
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمـــعها
هل سار منها بغير الطيب والكفن
تقبل الله من الحجيج حجهم، وسمع دعاءهم، وشكر سعيهم، ورحم الله المفقودين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
معشر الإخوة والأخوات:
فالمتأمل في قول النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينظر الى الكعبة ويقول: « مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ مَالِهِ وَدَمِهِ وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إِلاَّ خَيْرًا» ابن ماجه. فالسؤال معشر الإخوة والأخوات: اذا كنا ننفق اموالا من أجل الذهاب الى الكعبة المشرفة للطواف وأداء مناسك الحج. فكم ننفق من أجل الحفاظ على كرامة الإنسان؟ وما هي الجهود التي نبذلها لاحترام والمحافظة على عرض الإنسان الذي هو أعظم حرمة عند الله من الكعبة، تأكيدا على هذا المعنى قال صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: « إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا. فَأَعَادَهَا مِرَارًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» البخاري. معشر الإخوة والأخوات علينا ان نعامل الناس بالرحمة والليونة، وأن ننزل كل واحد منزله، وأن نراعي مشاعر كل إنسان. «دخل أعرابي على هارون الرشيد رحمه الله تعالى، فقال له في لهجة شديدة: ياهارون ان عندي كلاما شديدا قاسيا، فاستمع له، قال له هارون: والله لا أسمع، والله لا أسمع، والله لا أسمع. قال الأعرابي: ولم؟ قال هارون الرشيد رضي الله عنه: لأن الله أرسل من هو خير منك الى من هو شر مني، ثم قال له:»فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىطه 44