?>

النفس الأنسانية في القرآن الكريم

الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله،«واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»

 خلق الله الإنسان مؤلفا من جسم وروح وعقل ، لا يسعد الإنسان ولا يرقى رقياً مُتَّزِناً عادلاً حتى تنمو فيه قُوى الجسم والروح والعقل كلها نمواً متناسباً لائقاً بها، ويتغذى غذاء صالحاً، أنذاك يمكن فيه للإنسان أن يحقق كماله الإنساني، إن التوازن بين هذه العناصر الثلاثة مطلوبا، فمن أولى عناية خاصة لعنصر ما على حساب العنصرين الأخريين أصبح في هذه النفس اعوجاج في السلوك. وأعظم هذه العناصر هي الروح، فلا يعرف عللها ودواها إلا الله تعالى، قال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً الاسراء: 85. فتزكية النفس شاملة لأمرين: تطهيرها من السلوك الذميم، وتغذيتها بالأوصاف الحميدة، فقد وصف الله تعالى النفس بصفات ثلاث: المطمئنة، واللوامة، والأمارة بالسوء، والنفس قد تكون تارة أمارة، وتارة لوامة، وتارة مطمئنة، وأما النفس الأمارة: فهي المذمومة، للأنها تميل الى فعل المعصية، وتأمر بالسوء، كما قال تعالى حاكيًا عن امرأة العزيز: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ يوسف : 53. وقد أخبرنا سيد المرسلين أن الشيطان قرين النفس الأمارة بالسوء «إنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ الأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، ثُمَّ قَرَأ ‏:‏‏ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ ‏» الترمذي. فهذه النفس لا تستقيم إلا بتغذيتها بذكر الله تعالى، وتحريرها من أهواء الدنيا وشهواتها، وترقيتها إلى المقام العالي راضية بمقام الله ومطمئنة بذكره وطاعته.

وحين تضعف لدى الإنسان مشاعر الحس الإيماني، يحاول الشيطان أن يصول صولته منتهزاً تلك الفرصة، فيثير في النفس خواطر السوء، ووساوسه القهرية، محاولاً جذبها نحو مكائده، فينفث فيها سمومه الخبيثة. فلا ينفع الإنسان في هذه الحالة إلا النفس اليقظة اللوامة، وقد اختلف العلماء في معناها، قالت طائفة هي التي لا تثبت على حال واحدة، وهي كثيرة التقلب والتلون. وقالت طائفة هي التي تلوم صاحبها على تقصيره، وقالت طائفة: إن كل أحد يلوم نفسه برا كان أو فاجرا، فالسعيد يلوم نفسه على ارتكاب معصية الله، وترك طاعته، والشقي لا يلومها إلا على فوات حظها وهواها. إن النفس اللوامة هي النفس المتيقظة التقية المتوجسة التي تحاسب صاحبها، وهذا الذي يسمّيه علم النفس في يومنا هذا بالوجدان الأخلاقي، ومنبع هذا اللوم هوالحس الإيماني، وبه يميّـز المسلم بين الخطأ والصواب ، والحق والباطل ، فيكون بمثابة البوصلة الذي يوجهه نحو الإتجاه الصحيح. وفي كتب الحديث نقرأ نموذجا رائعا للوم النفس وعتابها من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عَنْ حَنْظَلَةَ الأُسَيْدِيِّ، وَكَانَ، مِنْ كُتَّابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ مَرَّ بِأَبِي بَكْرٍ وَهُوَ يَبْكِي، فَقَالَ مَا لَكَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قَالَ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا أَبَا بَكْرٍ، نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، كَأَنَّا رَأْىَ عَيْنٍ، فَإِذَا رَجَعْنَا إِلَى الأَزْوَاجِ وَالضَّيْعَةِ، نَسِينَا كَثِيرًا‏.‏ قَالَ فَوَاللَّهِ إِنَّا لَكَذَلِكَ انْطَلِقْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،‏ فَانْطَلَقْنَا فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ‏”‏ مَا لَكَ يَا حَنْظَلَةُ ؟.‏ قَالَ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ كَأَنَّا رَأْىَ عَيْنٍ، فَإِذَا رَجَعْنَا عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالضَّيْعَةَ، وَنَسِينَا كَثِيرًا ‏.‏ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ‏”‏ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى الْحَالِ الَّذِي تَقُومُونَ بِهَا مِنْ عِنْدِي، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ فِي مَجَالِسِكُمْ، وَفِي طُرُقِكُمْ، وَعَلَى فُرُشِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً وَسَاعَةً» الترمذي. قال الله تعالى تنويها بشأن النفس اللوامة: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ . وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ القيامة: 2.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

والنوع الثالث التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في القرآن هي النفس المطمئنة، سميت مطمئنة بإعتبار طمأنينتها إلى ربها بعبوديته والتوكل عليه، والرضا في السراء والضراء، وقد عرفها بعض العلماء بقوله: هي النفس الراضية، فلا تفزع عند الملمات، ولا تصخب في المصائب، ولا تغالي في الفرح والبهجه، بل هي ساكنة، تعرفت على حقيقة الدنيا وحجمها، فتعلقت بالاخره. فإذا اطمأنت النفس إلى عبادة الله تعالى وذكره، وإلى لقائه ووعده، وإلى قضائه وقدره، واطمأنت إلى ضمانه وكفايته، تسري في جسم الإنسان سكينة وراحة، ولعل من اهم اسباب التي تؤدي إلى القلق والتوتر و الإكتئاب وعدم الشعور بالسعادة و الراحة النفسية، هو حرمان النفس من ذكر الله تعالى، وقد دلنا القرآن الكريم الى ذلك في قوله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى طه:124-126. تمتاز النَّفس المطمئنة بالسَّكينة والتَّواضع، والصبر على الابتِلاء، والكبح عن جماح الشهوات، والترفع عن الرذيلة، فالأهواء كثيرة ونوازع النفس قوية، والنفس المطمئنة تثبت على الطريق الصحيح بمقتضى الإيمان والإحسان، والبر والتقوى، والصبر والتوبة، والإقبال على الله، قال الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُالرعد:28. ومن أهم صفات النفس المطمئنة الصدق، الصدق مع الله تعالى، والصدق مع النفس، والصدق مع الناس. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ» الترمذي. وعند الوفاة تستقبل النفس المطمئنة ملائكة الرحمة بحنوط وأكفان من الجنة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الملائكة عند احتضار النفس المطمئنة تقول: مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الطَّيِّبَةِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ ادْخُلِي حَمِيدَةً وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ » أحمد. وقال الله تعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي الفجر: 30.

مقالات ذات صله

تريد البقاء على اطلاع حول أحدث مقالاتي؟

اشترك هنا في النشرة الإخبارية الشهرية