الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله،«واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
إن العنف الذي نشاهده علي الساحة الدولية إنما يرجع ذلك إلي فقدان الحس الإنساني، واختلال منظومة القيم الإنسانية، التي تؤكد على التنوع الثقافي والحضاري، والحق في الحياة والكرامة الإنسانية دون التفرقة بين البشر.قال الله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا الإسراء: 70. لقد أجمعت الشرائع السماوية على جملة من القيم الإنسانية، ومن أهمها حفظ النفس البشرية، واعتبرتها حصنا حصينا. جعل الإسلام حفظ النفس مقصدا من مقاصده، وضرورة من ضروراته. يعتبر الإسلام الإعتداء على النفس البشرية من أعظم الذنوب، وأكثرها تهديدا لإستقرار الأفراد والمجتمعات. قال تعالي: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا المائدة: 32.إن المنظومة القيمية الإسلامية قائمة على أساس تحسين العلاقات بين الناس، واحترام خصوصياتهم الدينية والثقافية. إن مبادئ ديننا الحنيف كما نقلته الأجيال السابقة إلينا تطبيقا ومكتوبا تتطلع إلى التعايش والحوار الحضاري، ولا ترفض أي صيغة حضارية من صيغ اندماج المسلمين مع غيرهم، شريطة الإحتفاظ بهويتهم الإسلامية وخصوصياتهم الدينية، وهذا ما ينبثق بصورة واضحة من وثيقة المدينة المنورة التي تم ابرامها بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين اهل المدينة من غير المسلمين.
لا تمنعنا المبادئ الإسلامية التعامل مع من يخالفنا، وما الإختلاف إلا أمر ضروري يقره الإسلام، وتقره الفطرة الإنسانية. إن مبادئ الإنسان المتحضر تفرض هي أيضا القبول بالتنوع، والمسارات المتعددة، والمشاركة في خدمة المصالح العامة، وعدم المكيال بمكالين. منذ عصور الإسلام الأولى تعايش المسلمون مع تنوع المذاهب، والطوائف الإسلامية، وغير الإسلامية. إن عدم المساواة بين المواطنين يمثل التحديات المعقدة التي تواجه مستقبل الإنسانية، ومن خلالها يسعى بعض الإنتهازيين ترسيخ ثقافة الكراهية بين الناس، في المقابل يسعى الإسلام إلى ترسيخ قيم العدل والحرية الدينية، والموساواة في الحقوق بين بني البشر. يؤكد النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة على هذه المعاني الإنسانية، منها قوله صلى الله عليه وسلم: « يَا أَيُّهَا النَّاسُ: أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى » أحمد. في ظل المساواة يعيش الناس في أمن واستقرار، لا نزاع فيه و لا كراهية. فقد تختلف الأدين في العبادات وطريقة أدائها، لكن لا تختلف حول قيم المساواة والعدالة، إذ ذلك أساس التعايش والتعارف. قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ الحجرات: 13. يغلب اليوم على المشهد السياسي مسلك الإقصاء والتمييز بين المواطنين بسبب انتماءاتهم الدينية أو الثقافية أو الإجتماعية. ترفض المواطنة العادلة كل أنواع التمييز. نرى كثيرا من الإقصائيين كيف يبررون أفعالهم بتبريرات تخدم توجهاتهم السياسية. إن ديننا الحنيف يرفض كل أنواع التمييز رفضا تامة. وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد حينما أرسلته قريش ليشفع عند النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة المخزومية خير شاهد على ما سلف ذكره. حينها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد:« أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ. ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ: ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا » البخاري.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
«متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا»، قالها سيدنا عمر رضي الله عنه،انتصارا لقبطي المظلوم من قبل ولد أمير مصر عمرو بن العاص المسلم، وفي هذه الكلمات الجامعة دلالة قاطعة على احترامه رضي الله عنه البالغ للكرامة الإنسانية. تعلم سيدنا عمر رضي الله عنه هذه النظرة السامية إلى الإنسان مسلما كان أم غير مسلم، أسودا كان أم أبيضا من القرآن الكريم، ومن الرحمة المهداة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. ومن هنا فإن الحرية أساس صناعة الأبطال، ومفتاح التقدم والإزدهار، فالحرية من الشروط الضرورية للتقدم والبناء الحضاري، وهي من ثوابت الفكر الإسلامي، وإن كان مع الإسف الشديد أن المسلمين حرموا منها، ويعيشون تحت وطأة القهر والذل. ومع هذا فإن دين الإسلام يعلمنا ويربينا أن نقول الكلمة الطيبة للناس جميعا، قال تعالى: وَقُولُوالِلنَّاسِ حُسْناً البقرة:83. إن للكلمة وزنا وقيمة في التعامل بين الناس، كثيرا ما يختفي الإنسان من وراء لسانه، فإذا نطق كشف الستار عن عقله وخلقه.تعلمنا من الإسلام ومن الحكمة ان نطفئ نار الفتنة، وأن نعمل على ازالتها بالتي هي أحسن، كما يحثنا الإسلام أن نأخذ بأيدي الناس الى ما فيه خير الدنيا والآخرة. يجب على كل مسلم أن يكون القدوة الحسنة فيالتعامل مع الناس بالرحمة والمودة، لا القتل والدمار كما يفعل من يحسب نفسه من أهل السنة والجماعة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لاَتَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِن ْظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِن ْوَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَن ْتُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلاَ تَظْلِمُوا » الترمذي.