الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
إن الإنسان في تفاعل مستمر مع الحياة. فالحياة بطبيعتها التي جُبلت عليها، وما بها من متعة وبلاء تجعل الإنسان يعيش في تقلبات نفسية وصحية ومادية. فحينا يكون الإنسان مطمئنا، مرتاح البال، وحينا يكون قلقا مضطربا. حينا يكون معافا سليما، وحينا يكون مريضا سقيما. حينا يكون الإنسان مكتفيا مستغنيا، وحينا يكون محتاجا معسرا. تؤثر هذه التقلبات في نفسيتنا، وفي مسار حياتنا بشكل إيجابي أو سلبي بحسب طبيعة تفكيرنا، وطبيعة تعاملنا مع هذه التقلبات. قال الله تعالى: «إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا. إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا. وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا. إِلَّا الْمُصَلِّينَ » المعارج: 22. تحمل الدنيا تحت جناحيها نتائج مطابقة لتفكيرنا وإرادتنا. فتفكيرنا مطية للصلاح أوالهلاك، ومطية للطمأنينة أو القلق، ومطية للعنى أو الفقر، ومطية للصحة أوالمرض. الثابت أن الحياة تستجيب لتلك التحولات عن طريق تفكيرنا، لأن التفكير الإيجابي يبعد النفس عن التوتر والصراع النفسي، ويتجه بها إلى آفاق أرحب وأكبر استقرارا. «وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ، وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا، وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ، وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ. إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ» القصص: 77. فالفهم الصحيح لدين الإسلام، والتمسك بأصوله ومبادئه، والتحلي بأخلاقه وآدابه، والتعبد بعباداته وشعائره، والتمثل لأوامر الله تعالى ونواهيه يحقق للإنسان الطمأنينة والسكينة. فديننا بشموليته وسماحته عصمة أمرنا، وقطب رحى حياتنا. إن الحياة الدنيا محطة يتزود منها الإنسان استعدادا لمسيرة رحلة الآخرة.
نسير إلى الآجال في كل لحــــظة *** وأيامنا تطوى وهن مــــراحل. تَرَحل من الدنيا بزاد من التــــقى *** فعمــــرك أيام وهن قــــــلائل.
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً *** فإنما الربح والخسران بالعمل.
وهذا لا يعني أن نكره الدنيا، ولا أن ننظر إليها نظرة تشاؤمية، بل أن نأخذ بأسبابها التي جعلها الله تعالى فيها لتكون عونا لنا في تحقيق خير الدنيا والآخرة. « فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» البقرة: 200 ـ 202. إن من مقاصد القرآن الكريم ربط الدنيا بالآخرة، وربط المَشاهد الحسية بالمَعاني المعنوية الروحية. من خلال المعاني الروحية والأخلاقية نرتقي بذواتنا ومجتمعنا نحو الأفضل. فترى الواحد منا يعيش بين الناس بجسده، ولكن يُحلق بخياله في عالم الشهادة، ويَسرح بروحه في عالم الغيب. «أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ » الأعراف: 185. إن دوام النظر بعقل مفتوح، وبصيرة حادة في هذا الملكوت الواسع الهائل العظيم، يكفي ليدرك الناظر الحق الكامن فيه، والإبداع الذي يدل على الواحد الأحد، الذي لا ثاني له، ولا شريك له، ولا نظير ولا شبيه، فهو سبحانه المنقطع النظير، المعدوم الشريك، الذي تفرَّد بكل كمالٍ وجلالٍ وجمالٍ، فهو الواحد الأحد في صفاته، ليس كمثله شيء، ولم يكن له كفواً أحد. إن النظر بعين البصيرة إلى الأجسام الكونية تُزلزل القلب، وتُحير الفكر. تجعل هذه الأجسام الكونية العقل المجرد يتأمل في سعتها، ودورانها، وسرعتها، ودوام حركاتها من غير فتور، كما تجعله يتأمل في مسيرها في الفضاء من دون دِعامة. وإن الخلية الحية الواحدة في جسم الإنسان لا تنقضي من المعاني اللطيفة، والدلالات البديعة؛ وجودها، تركيبها، تصرفها، عمليات التحول الدائمة مع محافظتها على وجودها، ووظيفتها. هل هذا كله يتم عن طريق الصدفة، أو الطفرة، أم أن هناك خالق ومدبر وراء هذا الكون وما فيه؟ قال الله تعالى: «تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا. الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا» الفرقان: 1ـ 2. سئل أعرابي عن وجود الله وتعالى، فقال بفطرته السليمة، وبسليقته اللغوية: «البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ألا تدل على العزيز الخبير».