الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
يحظى القرآن الكريم بمنزلة عظيمة في نفوس المسلمين بوصفه كلام رب العالمين. لا يستغني المسلم ولا المسلمة عن قرآءة القرآن الكريم، والتأمل فيه. ففيه غذاء روحه، ونور بصيرته، وهداية عقله. «إِنَّ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانَ يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا» الإسراء: 9. فكان القرآن ولا يزال هاديًا ومرشدًا لمسار العقل الإنساني ووجدانه. قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ» مسلم. إن حياة المسلم مرتبطة بهذا الكتاب الكريم، منه يستمد عقيدته وعبادته، ومنه يستنير بالقيم الأخلاقية. يمثل القرآن الكريم المصدر الأساسي لأحكام العملية، والإلهام الروحي للمسلمين. للإستفادة من القرآن الكريم نحتاج إلى إعادة النظر في تكوين عقلية المسلم وتفكيره. يُعدُّ العقل الجوهر الأساسي في الإدراك والفهم والتفكير والإبداع، إنه لنعمة عظمى، ومنحة كبرى التي أكرم الله بها الإنسان. قال الله تعالى: « وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَـٰرَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» النحل: 78. إن كلمة العقل لم ترد في القرآن الكريم بصيغة إسم، وإنما وردت بصيغة الفعل. من هذا نستطيع أن نستنتج أن العقل ليس عضويا ماديا معرفا، بل هو كما عبر عنه الإمام الغزالي بأنه لَطيفة ربانيّة روحانيّة.
لقد حث القرآن الكريم على استعمال العقل في إكتشاف حقائق الوجود، والتأمل في آيات الله المسطورة وآيات الله المنظورة. حيث يتوافق الوحي الرباني مع تساؤلات الإنسان الكبرى حول الوجود والمصير. لقد ساهم القرآن الكريم في عملية البناء للمفاهيم والتصورات للعقل المسلم خصوصا، والإنسانية عموما. للأسف، لقد إختار كثير من الناس باسم الدين تعطيل عقولهم، والإنتفاع من تفكيره، وإبداعه، ولم يوفقوا من استغلال مواهبه وإمكاناته التي جعل الله فيه. من الناس من انكب على ذم من استعمل عقله في التأمل في الوجود والموجودات، وفهم روح مقاصد القرآن، ومراد الله ورسوله. في الطرف الآخر ناس أعطوا للعقل مكانة لم يخلق من أجلها. فالسؤال الذي قد يتبادر في ذهن الإنسان االمتبصر: كيف نعيد للقوة المدركة في الإنسان مكانتها التي تستحقها حتى نؤسس حضارة ترتكز على الأخوة الإنسانية، والعدالة الإجتماعية، والقيم الربانية. إن الوحي الرباني والعقل البشري يتكاملان، فالعقل لا يستغني عن الوحي، لأن الوحي يحفظ له توازنه، ويخلصه من اتياع الهوى. قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: « كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ، مَنِ اسْتَمْسَكَ بِهِ، وَأَخَذَ بِهِ كَانَ عَلَى الْهُدَى، وَمَنْ أَخْطَأَهُ ضَلَّ» مسلم. يحتاج الوحي إلى عقل متبصر منفتح يفهم روح معانيه، ويستخرج كنوز مقاصده. قال الله تعالى: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» الحج:46.
لقد اهتم الإنسان على مدى تاريخه الفكري، والفلسفي الطويل في البحث عن وضع آليات الفهم ومناهج المعرفة. لقد عايش عقل المسلم فترات متعددة: أولها عصر النبوة والصحابة، ثانيها عصر الفقهاء، ثالثها عصر المتكلمون، رابعها عصر الفلاسفة، وخامسها عصر الحنابلة. كان عقل المسلم في عصر النبوة والصحابة منشعلا بالعقيدة، والشعائر التعبدية على سبيل البساطة والسهولة. عَن سُفْيَان بن عبد الله الثَّقَفِيّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا قَالَ: «قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّه ثمَّ اسْتَقِم» مسلم. بفضل صحابة النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين انتشر الإسلام في شتى بقاع الأرض، فاستجدت المسائل، وحدثت الحوادث لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقام نفر من المسلمين بالدراسة والبحث فيما يعرض عليهم من القضايا الدينية والإجتماعية. فوضعوا لذلك قواعد ونظريات تسدد وتصوب عقل المسلم عند التفكير في المستجدات. «فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍۢ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِى ٱلدِّينِ» التوبة: 122. فرض انتشار الإسلام خارج الحجاز على المسلمين وضع براهين لبيان معتقداتهم بطريقة منطقية. كان علم الكلام ثمرة تطور تاريخي لمبادئ فكرية وعقدية وليدة القراءة العقلية للنصوص الدينية. لقد تأثر علم الكلام بالفلسفة اليونانية، حيث كان ردة فعل التي حاول بها المسلمون عرض الإسلام وصوغ عقائده بنفس الأفكار والمناهج الناتجة ضمن ظروف زمانية ومكانية. وأما فلاسفة المسلمين قد تفاعلوا مع الفلسفة اليونانية بشكل مباشر وغير مباشر وترجموها إلى العربية. فحاولوا أن يفسروا مسائل الإعتقاد بفلسفة فلاسفة اليونان؛ حينا حرفيا، وحينا حاولوا إيجاد نظرية توفيقية بين الإسلام والفلسفة. هذه التجرية لم تجد النجاح في الحضارة الإسلامية. ربي يعفوا عن الجميع ويوفقنا إلى ما فيه خير الدنيا والآخرة.