الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
نجد القرآن الكريم حافلا بالأيات البينات التي تلفت نظر المتأمل إلى هذا الكون البديع. يحتوي هذا الكتاب العظيم على آيات تتحدث عن السماء والأرض والنجوم والشمس والقمر وغير ذلك من الافلاك السماوية. يعرض القرآن الكريم الكثير من الحقائق الكونية بالموضوعية والإيجاز. فهو لا يعرضها بطرق التي وضعها الإنسان، وإنما يكتفي بالإشارة أو الإستعارة أو العبارة التي تومض في عقل الإنسان المتأمل نورا روحانيا. لقد اهتدى الإنسان بما وهبه الله من ملكات عقلية أن يعرف الكثير عن هذا الكون البديع. لقد استطاع أن يكشف أن الكرة الأرضية لبثت قرونا بلا حياة ولا أحياء يدبون عليها، ولم يكن هناك على سطح الأرض سوى الصخور والمياه. مصداقا لقوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا » هود: 7. أودع الله تعالى في القرآن الكريم كنوزا علمية، وأسرارا ربانية، وغذاء روحاني. أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم نورا وهداية وإرشادا للعالمين كافة. تلفت الآيات الكونية نظر المتأمل إلى عظمة الله تعالى، وحكمته في هذا الوجود البديع. «وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» يس: 38. لقد توصل علم الفلك إلى أن للشمس مجموعة من الكواكب التي تخضع لقوة جاذبيتها، وتجعلها تدور من حولها في مدارات متتابعة. إن المجموعة الشمسية تجري في الفضاء بسرعة محدودة وفي اتجاه محدود كما قدر الله لها ذلك. « ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» ولم يتوصل علماء الفلك إلى معرفة هذه الحركة واتجاهها إلا في أوائل القرن العشرين، بينما أن القرآن الكريم قد أعطى إشارات مهمة في ذلك قبل خمس عشرة قرنا. فأين هذا من وقت نزول القرآن حيث لم يكن محمد النبي الامي ولا قومه يعرفون شيئا من ذلك.
إن المسلمين لسوء الحظ لم يدعموا بشكل مقبول جهود علماء الفلك المسلمين، بل قد حاربهم البعض. وأساس هذا الإشكال هو أن علم الفلك يسمى أيضا علم التنجيم. فكان الكهنة يستعملون علم التنجيم للتكهن بالمستقبل. وفي هذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنِ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنَ النُّجُومِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ » أبو داود. وإن علم الفلك ليس سحرا ولا تكهنا، وإنما هو كما قال ابن خلدون رحمه الله تعالى: «علم ينظر في حركات الكواكب الثابتة والمتحركة والمتحيّرة، ويستدل بكيفيات تلك الحركات على أشكال وأوضاع للأفلاك. لزمت عنها هذه الحركات المحسوسة بطرق هندسية» مقدمة. فعلم الفلك يساعدنا على فهم قول الله تعالى: « هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ» يونس: 5،6. فقوله تعالى: « هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا » حالان مشيران إلى الحكمة والنعمة في خلقهما. وقد أنبأنا الله بعلة تقديره القمر منازل بأنها معرفة الناس عدد السنين والحساب. وحين نتصور أن حجم الشمس يبلغ نحو12500 ضعف لحجم الأرض، وأن هذه الكتلة الهائلة تتحرك وتجري في الفضاء، لا يسندها شيء، ندرك طرفا من صفة القدرة التي تتصرف في هذا الوجود عن قوة وعن علم. إن مطلع الشمس ومغيبها، والظلّ الذي يمتد ثم يتراجع بعناية ودقة، ما هي إلا مظهر من مظاهر القدرة، والحكمة الإلهية، وهي معروضة كلها على الأنظار، كلها تنطق بقدرة الله، وتشهد بحكمته، وتدل على حسن تدبيره. وعد الله الإنسان أن يطلعه على شيء من خفايا هذا الكون، وخفايا نفسه. قال الله تعالى: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» فصلت: 53. ووعده يتحقق كل يوم بل قل كل ثانية، بفضل العلم والبحث يُكشف للإنسان كل لحظة من جديد عن اسرار وخصائص هذا الوجود البديع. لقد عرف الإنسان أشياء كثيرة بعد نزول القرآن. عرف أن الأرض التي كان يزعم أنها مركز الكون، إن هي إلا ذرة صغيرة تابعة للشمس. بفضل العلم ومعرفة أسرار الوجود يرتقى كثير من الناس إلى معرفة خالق الوجود، ويهتدون الى نور الايمان، ومنهم من يظل على جحوده وانكاره.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
معشر الإخوة والأخوات:
يبقى القرآن الكريم يوقظ القلب الإنساني للتأمل والتدبر، واستجلاء أسرار المظاهر الكونية، غير أنه لا يدرك كنه هذه الأسرار إلا القلب المتبصر. فحقيقة الوجود لا تُتفتح إلا بمفتاح الإيمان، ولا تُرى إلا بنور البصيرة. لم يلجأ القرآن الكريم إلى الأسلوب الجدلي في الإستدلال كما هو شأن المتكلمين والفلاسفة، ولكنه خاطب عقل الإنسان بالآيات الكونية المبثوثة في الآفاق والأنفس. إذا أمعنا النظر في هذا الكون الفسيح، لوجدنا أن كل شيء فيه دليلٌ واضح على وجود الله، وطريق إلى معرفته سبحانه. وذلك عن طريق النظرة الإيمانية التي تتعدى المعرفة الظاهرية للكون، وتصل إلى المعرفة الباطنية. قال الله تعالى:«قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ» العنكبوت: 20.
- الكون والإنسان في التصور الإسلامي تأليف الدكتور حامد صادق قنيبي