الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، وبها ترفع الدرجات، وبها يرتقي الإنسان عن الهفوات، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
تتطلع قلوب المؤمنين الى استقبال شهر رمضان المبارك، وتنتظر اشراقته لعل الله سبحانه وتعالى يزيل هذا الظلام والظلم الذي يحيط بالمسلمين. لقد هاجت أعاصير الفتن، وكثر الهرج والمرج في كثير من بقاع المسلمين. متى يغير رمضان حياتنا من واقع سلبي إلى واقع إيجابي، ومن واقع التدمير إلى واقع البناء الفكري والحضاري؟ حتى في شهر الذي أنزلت فيه أعظم الكتب تهتك أعراض المسلمين بإسم الإسلام. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الإِنْجِيلُ لِثَلاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الزَّبُورُ لِثَمَانِ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ ، وَأُنْزِلَ الْقُرْآنُ لأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ» أحمد. وقال الله تعالى عن نزول القرآن: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ الدخان. 3. إن من كرم الله، وعظيم نعمه علينا ان أكرمنا بشهر عظيم الأجر والثواب، إنه لفرصة عظيمة لتغيير حالنا، وتصحيح أفكارنا ومعتقداتنا، وتقويم سلوكنا، إنه فرصة ثمينة لمن يدعي الحق المطلق، ويرمي كثير من المسلمين الصادقين مع ربهم المخلصين لدينهم بالبدعة والضلالة، أن يتوبوا إلى ربهم ويكفوا عن ذلك قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه الندم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ» النسائي. فأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في فضل شهر رمضان كثيرة، لا يسمح المقام بسردها، إنها بكثرتها تكشف لنا عن عظمة هذه الشعيرة، وبركتها على من التزم ضوابطها وآدابها. فالصيام جهاد النفس، ومجاهدة النفس هي أول أبواب الجهاد في حياة المسلم، وفي هذا السياق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ» الترمذي. فالصيام ينمي لدى المسلم قوة روحانية ، مما يزيده قوة في الإرادة والعزيمة، فما كان صيام شهر رمضان معطلا لطاقة المسلم، ولا سببا لتعطيل عن العمل، فما يفعله بعض الناس من ادعائهم المرض في رمضان، ويتعطلون عن العمل، ليس من الصيام في شيء، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» مسلم. يحمل رمضان في كلِّ سنة معاني كثيرة وحقائق هامّة من حقائق الإسلام الكبيرة، فهل يدرك أولئك الذين وضعوا أنفسهم في خدمة الظالمين مسؤوليتهم أمام الله عز وجل، يا من كنا نظن أنكم دعاة تحملون شعاع الصحوة الإسلامية، تذكروا خطاب الله للصحابة خصوصا وللمسلمين عامة: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ آل عمران. 144.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
يفرض علينا صيام رمضان التمسك بقيم القرآن ومبادئه، وعلى الأخص في هذا الوقت الكف عن سفك الدماء، ونبذ العنف، والرضا بمشروعية الخلاف، وابعاد الدين الإسلامي عن الصراعات السياسية، والحرص على صفاء النفوس، والتعاون على نشر الخير والسلام بين الناس. وهذا كله هو جوهر ديننا، ومطلب رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعمل الأنبياء. لقد شُعّبت في هذا العصر السبل على كثير من المسلمين، وشُوِّهت عليهم الحقائق، وعُميت بصائرهم بالشعارات الزائفة. إن شهر الصيام مناسبة كبرى على تنبيه الغافل، وتبصير المخدوع. إن المقصد من الصيام هو إعادة التوازن المفقود بين قيم النبيلة وبين غرائز الإنسانية، فإن تحكم الشهوات هي أخطر شيء يهدد استقراء المجتمعات. قال الله تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ القصص. 50. ومن خير ما نستقبل به رمضان التوبة الصادقة، والإخلاص لله تعالى، والعفو عن الناس، والإحسان إليهم، وصلة الأرحام، وتطهير القلوب من البغضاء، كما أن على الصائم الإمساك عن المفطرات الحسية كالأكل والشرب وغيره، فإن عليه أيضا الإمساك عن المفطرات المعنوية كالغيبة والنميمة والغش والحقد وغيرها. قال الله تعالى:وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ النور. 31.