الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
لقد أدب الله عز وجل سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم، فأحسن تأديبه، حتى أصبحت العظمة والحكمة من خصائصه. فهو المعلم الناصح ، والمربي الصبور، والصديق المخلص، والمبلغ الأمين. يسع صدره صلى الله عليه وسلم لجميع الناس. كما يسع صدره للناقد البناء، يسع صدره أيضا للناقد الهدام. يصفه الواصفون بأن مزاحه كان تأليفا ، وكلامه جامعا شاملا على المعاني الجميلة، والمقاصد النبيلة. لم يمنعه صلى الله عليه وسلم مقام النبوة أن ينبسط مع أصحابه، يمازحهم ويضاحكهم. من أعظم ما نتأسى بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم علاقته بالناس. كانت ترتكز على المحبة والإخلاص وجميل العشرة. يقول الله تعالى: «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ « التوبة: 128. كان عليه الصلاة والسلام قليل الكلام، وإذا تكلم تكلم بالحكمة والمعرفة، وإذا سكت تأمل وتدبر. «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ» آل عمران: 164. وكان صلى الله عليه وسلم محبا للعفو والصفح، يتجلَّى عفوُه صلى الله عليه وسلم في أروع صوره يوم فتح مكة، حينما دخلها منتصرًا، وعيون قريش شاخصة إليه ينتظرون ما هو فاعل بالذين آذَوْه وطردوه من بلده. وقف سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم على باب الكعبة فقال: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، مَا تَرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ فِيكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ. قَالَ: اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ» ابن اسحاق. بهذا الخلق العظيم، السمح، اللين، الذي لا يعرف الفظاظة إطلاقا، صاحب الصدر الواسع، وصفت السيدة عائشة رضي الله عنها النبي محمد صلى الله عليه وسلم فقولها: بأنه «لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا، وَلَا صَخَّابًا فِي الأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ» الترمذي. هكذا يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم تطبيقيا أن أكمل المسلمين والمسلمات إسلاما أحسنهم معاملة لغيرهم. وقد تأصلت ثقافة التسامح والعفو في حضارة المسلمين عبر القرون حتى أصبحت مكونا أصيلا من مكونات عقلية المسلم والمسلمة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
معشر الإخوة والأخوات:
يحدد القرآن الكريم مهمة سيدنا محمد في العالمين في قوله تعالى: «وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ» النحل: 89. تعد أفعال النبي صلى الله بيانا عمليا للوحي. اهتم المسلمون في الصدر الأول للإسلام بحفظ أقواله وأفعاله وتقريراته. وابتكروا علوما لتنقية سنة النبي صلى الله عليه وسلم من الوضع، وتمييز الصحيح من الضعيف. بذل المسلمون جهدا جبارا لجمع كل ما نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فبينوا أحوال متونها وأسانيدها. إن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم هو النبي الوحيد، بل الإنسان الوحيد الذي حفظت ودرست أقواله وأفعاله بهذا العناية العلمية الفائقة. لم يُنزل ربنا تبارك وتعالى القرآن على سيدنا محمد لمجرد التبرك بتلاوته فحسب، وطرد الجن من أجساد الناس كما يفعل البعض، مع تأكيدي على أهمية الروحية لتلاوة القرآن الكريم، إلا أنني أريد أن أنبه على المقصد الأساسي من نزول القرآن الكريم. إن القرآن الكريم من أحسن مناهج التربية الروحية، وبناء المجتمعات على فضائل الأخلاق. فهو «نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ» النور: 35. ويدل على مكانة الأخلاق قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الأَخْلاقِ» أدب المفرد. يتقدم ويزدهر المجتمع، عندما تنتشر فيه الأخلاق الفاضلة، بل إن أساس الحضارة تتجلى في سمو أخلاق المجتمع. إن الأخلاق هي نتاج القلب السليم، والنفس الزكية، والعقيدة الصحيحة، والفكر المعتدل. كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم معروفا بين قومه بالأمانة والحكمة. فهو القائد الحكيم، الذي تحكمه مبادئ العفو والتسامح، وتأليف القلوب. هذه المبادئ أهلته لأن يكون مثالاً ونموذجاً كاملاً في القيادة الحكيمة الناجحة القادرة على السير بالأمة لتحقيق الأهداف والغايات التي جاءت من أجلها رسالة الإسلام. يقول الله تعالى في حق مهمة سيدنا محمد صلى الله عليه: « الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ »الأعراف: 157.