الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
خلق الله الإنسان لا يعلم شيئا، وبدأ يتعلم مبادئ الحياة رويدا رويداً، ويكتشف أسرارها فشيئا فشيئا، حتى وصل لمرحلة متقدمة من المعرفة، وتطور كبير في شتى مجالات العلوم، قال تعالى: «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» النحل: 78. إن دراسة تاريخ نشأة الطب هي دراسة أيضا لفلسفة تطور الفكر الإنساني، وكيف استطاع الإنسان على مواجهة الظروف التي اعترضته في حياته، والتغلب عليها من أجل البقاء، حيث كان عمر الإنسان قصيرا لا يتجاوز ثلاثين عاما، وبفضل تطور معرفة الإنسان الطبية، أصبح متوسط عمر الإنسان في عصرنا ثمانين سنة، وإن صحة الإنسان هي انعكاس لظروفه الإجتماعية. وإن تعاليم الإسلام لعبت دورا هاما في تحسين صحة الإنسان. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ سِتِّينَ إِلَى سَبْعِينَ وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ» الترمذي. بدأ الإنسان القديم يبحث عن أسباب الأمراض التي تهدد صحته وحياته، وفي كثير من الحالات كان الإنسان القديم يعتقد اعتقادا راسخا بأن السبب الرئيسي لمعظم الأمراض يعود في الأساس إلى المس من الجن، حيث كان يعتقد أن الجن هي المسيطرة على الكون، وكان إذا نزل مكانا موحشا، تعوذ بالجن حتى لا يصيبه أذاهم.. ويؤكد هذا الإعتقاد قوله تعالى: «وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا» الجن: 6. وقد قسم الإنسان القديم هذه الأرواح إلى قوى خيرة تعمل لصالحه، وقوى شريرة تلحق به المرض والأذى. وكان التطبيب مبنيا على تجربة الكهنة ومشايخ القرية وعجائزه. وقد ارتبط الطب في بدايته بأعمال الخرافة والشعوذة والدجل، وفي زمن أبقراط أحد أشهر الأطباء عبر التاريخ، ومع ظهور الحضارة الإسلامية بدأ الطب يأخذ شكله المعروف اليوم، لكن بقيت الخرافة إلى يومنا هذا تسيطر على بعض عقول الناس، مما يجعلهم عرضة للإستغلال.
لقد تمكن الإنسان القديم من استعمال الأعشاب لتخفيف الآلام، والقيام بطقوس معينة، وتثقيب الجمجمة لعلاج الصرع بإخراج الأرواح الشريرة على حسب زعمه. كان الإنسان يعتقد أن المرض عقاب إلاهي، وظل هذا الاعتقاد سائدًا حتى القرن الثاني عشر، وبمجيئ الإسلام بدأ الطب يتطور، واعتبر الإسلام المرض مصيبة وبلاء، وليس عقابا إلاهيا، فيجب السعي في البحث عن طرق العلاج، وتقوية المعاني الروحية بعبادة الله تعالى، حتى يتم التوازن بين مطالب الإنسان الروحية والجسدية. فقام المسلمون بتطوير الطب القائم على التحليل العلمي، اقتداء بقول النبي صلى الله عليه وسلم عن جابر: «لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى» مسلم. ولأبي داود عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً فَتَدَاوَوْا، وَلَا تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ «. بدأ الإسلام يحرر فكر الإنسانية من الخرافة والشعوذة، ويرشد الناس إلى استشارة الطبيب. استفاد الأطباء المسلمون بالخبرات الطبية التي كانت سائدة أنذاك، وأفرز الإسلام أعظم الأطباء في التاريخ، حيث طور الأطباء المسلمون أساليب العلاج، ومارسوا الجراحة والتشريح على نطاق واسع، وكان للنساء المسلمات نصيب في ممارسة الطب.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
معشر الإخوة والأخوات:
حرر النبي صلى الله عليه وسلم الطب من الخرافة والدجل، واعترف دين الإسلام بالعلم والتطبيب، وكان الناس يتوجهون إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أجل التداوي، إلا أنه كان يرشدهم إلى الإستعانة بالأطباء، فيقول: «تَدَاوَوْا يَا عِبَادَ اللَّهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً ، إِلَّا دَاءً وَاحِدًا الْهَرَمَ» ابن ماجه. يدين الإسلام كل من يمارس مهنة الطب دون علم ودراية. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَطَبَّبَ وَلاَ يُعْلَمُ مِنْهُ طِبٌّ فَهُوَ ضَامِنٌ» أبو داود. ولما ابتعد المسلمون عن حقيقة دينهم، وجوهر إيمانهم بالله تعالى، وقعوا مرة أخرى في الخرافة التي أنقذهم منها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي عصر النهضة تطورت الأبحاث الطبية والتشريح في الغرب، وقفز علم الطب قفزة ذات نوعية في تشخيص الأمراض ومعالجتها. وانتشر بين المسلمين من جديد اعتقاد أن الأمراض وخاصة المعقدة منها إنما هي نتيجة لتأثير السحر ومس من الجن، و دفعهم ذلك إلى طلب العلاج لدى المشعوذين. وعاد الفكر الخرافي إلى الساحة الإسلامية، وتخلف القطاع الطبي، وغاب الأطباء المسلمون من ساحة البحث، وبرز ناس يتاجرون بمآسي الإنسان المغلوب، يدافعون عن هذه الخرافة باسم القرآن والسنة. إن الاعتقاد بأن الجن يدخل في جسد الإنسان ويسبب له الأعراض النفسية والجسدية لا يستند إلى أيِّ دليل مقبول لا في القرآن الكريم ولا في السنة الصحيحة، ولا في العلم التجريبي، وإنما هي خرافة اجتماعية، لا علاقة لها بدين الإسلام، ولم يجعل الله تعالى للجن سلطة على بني آدم. قال تعالى: «وَقَالَ ٱلشَّيْطَٰنُ لَمَّا قُضِىَ ٱلْأَمْرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لي عَلَيْكُم مِّن سُلْطَٰنٍ إِلَّآ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لي» ابراهيم: 22. وقال الإمام ابن عاشور رحمه الله تعالى: «فإن الشيطان لا تأثير له في بني آدم بغير الوسوسة، كما هو مقرر من مكرر آيات القرآن».
المراجع
- تاريخ الطب، من فن المداواة إلى علم التشخيص، تأليف جان شارل سورنيا، ترجمة د.ابراهيم البجلاتي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، مايو 2002.
- الطب القديم حتى نهاية العصر الحجري الحديث د.عبد العزيز اللبدي
- الطب عند العرب والمسلمين د.عبدالرحمن أقرع
- التحرير والتنوير لمحمد الطاهر بن عاشور.