الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
لقد أسست تعاليم القرآن الكريم حضارة راقية. لا يخفى أن تعاليم القرآن الكريم لم تلغي الحضارات العريقة والثقافات الإنسانية السامية، بل ألغت منها ما يتعارض مع الفطرة والكرامة الإنسانية. لقد أسهمت الحضارة الإسلامية إسهامًا مباشرًا وغير مباشر في تَقَدُّم العديد من العلوم، ومهدت الطريق للقيام بأبحاث في مجال الطب والفلك والرياضيات والفلسفة. لقد هدى الله عز وجل عبر العصور المتتالية علماء نجوما لامعة تثقفوا بتعاليم الإسلام السامية، فأقبلوا على دراسة مختلف مجالات العلوم الدينية والدنيوية. فكانوا أنوار الهدى، ومصابيح الدجى، ومنارات الخير. وحققوا بذلك إنجازات ذات شهرة عالمية. «إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» الإسراء: 9. لقد تجاوزت الحضارة الإسلامية حدود العرق والطبقات، فهي لم تكن بحد ذاتها ثقافة قوم معين، بل هي حضارة مزيجة من مختلف الثقافات العربية والأمازيغية والفارسية والكردية والتركية والهندية والرومانية وغيرها. قيض الله عز وجل علماء ربانيين، وأئمة مهديين رفعوا شعار المعرفة، فتحملوا في سبيل ذلك المحن والمشاق. في الشرق الإسلامي ظهر نجم من نجوم العلم. اهتم محمد بن موسى الخوارزمي بمسألة المراث في القرآن الكريم وعالجها علاجا سهلا. كان له فضل السبق في شرح الأرقام الهندية وتبسيط العمليات الحسابية، ويعد هذا الإنجاز مدخلا إلى تطور الرياضيات في الغرب. لقد استفزت آيات القرآن الكريم عقل الانسان المسلم وخياله، وجعلته يفكر بشكل سليم من اجل الوصول الي اكتشاف ما وراء سطور الآيات القرآنية. يقول الله عز وجل: «فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» الأنعام: 96ـ97. وجد علماء المسلمين في القرآن الكريم عناصر المعرفة، والجمال الروحي. فبنوا بذلك حضارة جمعت بين العلم والدين. بذلك قدمت الحضارة الإسلامية للمجتمعات البشرية قيما أخلاقية، وتدينا معتدلا، ومعارف ترفع من قيمتهم الإنسانية. فكانت لهم بمثابة النور الذي أخرجهم من العصور المظلمة. لقد نجح علماؤنا في القرون الإسلامية الأولى في وضع مبادئ علمية في فهم الوحي، وفي دراسة الأجرام السماوية، فوضعوا بذلك مبادئ علمية ذات شهرة عالمية في مجالات الطب وعلوم الفلك وفنون العمارة.
لقد فتحت المساجد أبوابها لطلب العلوم الإنسانية والكونية لجميع أبناء وبنات المجتمع دون استثناء. إن مسألة العلم مسألة أساسية في الإسلام. حيث إن أول ما نزل من القرآن الكريم قوله تعالى: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ » العلق: 1ـ5. لقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد مركزا مهما لنشر الثقافة الدينية والأدبية والعلمية. يكسب الإنسان بالتوجه إلى الله تعالى العلم الذي يدرك به حقيقة معنى الوجود، ومعنى الفضيلة والرذيلة، ومعنى الحق والباطل. يعرض القرآن الكريم صورة الإنسان من جميع جوانبها المادية والمعنوية ويصورها بكل قيمها الفكرية والروحية. يصور لنا الله عز وجل في الآية الآتية صورة الإنسان المتطلع إلى رحمة الله وفضله. يقول الله تعالى: «أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ» الزمر: 9. بالصدق في القول والإخلاص والعمل تنفتح بصيرة الإنسان، وتُمنح لها نعمة الإدراك للحقائق الكبرى الثابتة وراء الظواهر الكونية، والتجارب الحياتية.
أرست الحضارة الإسلامية في عصر ازدهارها مقوماتها على قيم قرآنية وبيانات نبوية. يمكن أن نلخص المقومات التي ازدهرت بها الحضارة الإسلامية في النقاط الآتية:
الأول: الإيمان بالله تعالى، تعتبر العقيدة الإسلامية القوة الدافعة في ازدهار الحضارة الإسلامية. حيث تغرس العقيدة الإسلامية في النفس العزة، وتفتح للعقل آفاق المعرفة والتصورات عن الله والكون والإنسان. المقوم
الثاني: هي عبادة الله تعالى، تحيط العبادة في الإسلام بأهداف منشودة تخدم الفرد والمجتمع روحيا وأخلاقيا. فهي مفتاح شكر خالص، وحمد عظيم للخالق سبحانه وتعالى. لعبادة الله عز وجل أثر كبير في بناء الإنسان روحيا وعاطفيا واجتماعيا، فهي تدريب على الإخلاص والإنضباط والإتقان. يقول الله تعالى: «اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ» العنكبوت: 45.
المقوم الثالث: التسامح الديني، ضمنت الحضارة الإسلامية حرية ممارسة الشعائر الدينية لأصحاب الديانات الأخرى، فكانت بذلك مزدهرة فكريا، ومتسامحة دينيا، وتعاملت مع أفراد المجتمع على أساس العدل والإحسان.
لقد رفضت الحضارة الإسلامية التعصب الديني، وقبلت الآخر برحابة وسماحة. التزمت بقول الله تعالى: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ» البقرة: 256. في أيامها الحسنة فتحت باب البحث العلمي، وشجعت على عملية الترجمة للمؤلفات العلمية العالمية. فاستوعبت بذلك التعددية العلمية والفكرية التي سمحت لها العيش في سلام مع تنوع أفرادها. فساهم المسلم وغير المسلم في ازدهار الحضارة الإسلامية. يقول الله تعالى: «لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» الممتحنة: 8.