الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله،«واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
إن إسلامنا الذي بُعث به محمد صلى الله عليه وسلم يدعو إلى تعزيز قيم الإخاء الإنساني، والتأكيد المستمر على توحيد الجهود لخدمة المصالح الإنسانية العليا، يؤكد القرآن الكريم على أن هذا الوجود البشري المتنوع في أعراقه، وألوانه، وثقافاته يرجع إلى أصل واحد، فمكونات الأساسية للبشر هي متساوية في أصل وجودها، فلا فرق بين الإنسان الأسود والأبيض، وجه القرآن الكريم الناس إلى إقامة المجتمع الإنساني على قواعد من التعارف والتواصل، لأنهما من حاجياته الإجتماعية، فبهما يُثبت ذاته، ويُحقق رغباته ويُؤمن احتياجاته، والمقصد الأسمى من التواصل والتعارف هو نشر قيم الخير بين الناس، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌالحجرات:13. يقتضي التعارف حرية التنوع، والإحترام المتبادل. إن الإسلام ينبذ الإستعلاء الثقافي واستقصاء الآخر، ويُرسخ مبدأ المساواة بين البشر بغض النظر عن خلفيتهم الإجتماعية والدينية. إن تعاليم الإسلام الحنيف تجعل المسلم قادرا على التعايش مع مختلف الثقافات والأديان. إن الإخلال العملي الذي يقع فيه بعض المسلمين، مبعثه الجهل بالقيم الإسلامية، وسوء فهم نصوص الشرع، والقمع الإجتماعي. في ظل هذه الصراعات المأزومة، وسياسة التمييز ضد المسلمين ظهر شيوخ بعضهم لا يملك مؤهلات علمية، خرجوا عن المدارس الفقهية المعروفة، وأحيوا من جديد منهج الفكر المتطرف، واستطاعوا أن يؤثروا في بعض الشباب الغاضبين على مواقف سياسة المكيال بمكيالين. إن عدم مراعاة مشاعر المواطنين من جميع انتماءاتهم العرقية والدينية أمر يجعل بعض الشباب ينحازون إلى الطوائف المتطرفة. إن اسلامنا دين السلم والسلام، ودين التسامح والتعاون، إن اسلامنا دين الحرية والإحترام، ودين ينبذ العنف والرعب، ونحن بدورنا ننكر بشدة ما يحصل في العالم من القتل والدمار.
إن الحرية مبدأ من مبادئ الإنسانية، وقيمة من قيم الإسلام، الحرية مكسب كبير للإنسانية، فلا ينبغي الإفراط ولا التفريط فيها، ومن أهم ضوابط حرية التعبير هو احترام مشاعر الآخرين، أتساءل إذا ما كان للمسيطرين المتكبرين احساس لاحترام مشاعر الأقليات، أتمنى أن يقفوا وقفة تأمل مع الأحداث الماضية، ولكن من الجانب الآخر، مع الأسف نجد بعض المسلمين أيضا لا يدركون معنىً لقيمة الحرية، غافلين عن مكاسبها النبيلة، وخيراتها العديدة، إن الحرية هي التي سمحت ببناء المساجد ودور العبادة في بلاد الغرب، فبفضل الله تعالى أن القانون في هذا البلد الآمن يحمي حرية الإعتقاد، وحرية التعبير، وحريات عامة، فعلينا أن نحمد الله تعالى على الفضل والنعمة، ويجب علينا أن نعمل بجد على الحفاظ عليها، إن المسفيد الأول من الحرية هم الأقليات، لاشك أن هناك من المتطرفين في هذا البلد -الذي نطلب الله عز وجل أن يجعله بلدا آمنا مطمئنا وأن يحفظه من الفتن- يتضايقون بما ينعمون به المسلمون من المساجد ومماراسة شعائرهم الدينية، فلا ينبغي لأي مسلم أن يُضايق على حرية الآخرين، مهما اختلفنا معهم اخلاقيا، فاحترام القانون هي مصلحة العليا للجميع، لقد خاض سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم معارك مع قريش من أجل الحرية، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحاربهم لأجل دخولهم في الإسلام، ولا من أجل أنهم أساؤوا إليه، ولكن من أجل الدفاع عن حرية العقيدة، ورفع الظلم عن المستضعفين، وكان صلى الله عليه وسلم يجيب إعتداء المسيئين إلى شخصيته الطاهرة وبدنه الشريف بقوله: « اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإنَّهُمْ لا يعْلَمُونَ » حلية الأبرار. قبل 15 قرنا صاح سيدنا عمر رضي الله عنه بالحرية، دفاعا عن حرية مواطن قبطي، فقال لأمير مصر عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً». الحرية قررتها شريعتنا، وحملت شعارها حضارتنا الإسلامية ، وفي الزمن المعاصر وضعت الأمم المتحدة ميثاق حفظ الحريات العامة، أرسل الله الرسل والأنبياء لبيان طريق الهدى، وطريق الضلال، ثم تركوا للناس حرية الإختيار من دون إكراه، او تهديد، انطلاقا من قوله تعالى: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌالبقرة: 256. ومن قوله تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْالكهف: 29.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل، لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
بسبب الحرية ازدهرت العلوم في القرون الأولى للإسلام، وامتلأت المكتبة الإسلامية بمؤلفات في التوحيد والأصول والفقه والمنطق والفلسفة والطب والكيمياء والهندسة والرياضيات والفلك، حتى فاض خيرها إلى العالم الغربي، فلما فقد المسلمون حريتهم، وأهينت كرامتهم، أصبح يستفزهم بؤساء بكاريكاتير لا قيمة لها ولا وزن، فهي لا تعبر إلا عن بؤس حياة صاحبها وتعاسته، أما سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فهو أسعد انسان وأرحم مخلوق عرفتهم البشرية، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَالأنبياء:107، وأحسن مراع لمشاعر الناس، «مَرَّتْ بِالنبي صلى الله عليه وسلم جَنَازَةٌ، فَقَامَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: أَلَيْسَتْ نَفْسًا» البخاري. إن حرية التعبير لا تعني السخرية بالمقدسات ، ولا أن تداس كرامة الإقليات تحت أحذية الثقافة المهيمنة. ان حرية التعبير هي الكلمة النزيهة التي تبني العقول، وتنبه الغافل، وتذكر الناسي، وتكشف فضائح المفسدين. إن الغاية من حرية التعبير هي الإصلاح والنهضة وليس إيذاء مشاعر الأقليات. إن إيذاء مشاعر مجموعة من المواطنين ينعكس سلبا على المجتمع بأكمله. قال الله تعالى:ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ النحل: 75. نشاهد في هذا المثل القرآني نتيجة الإنسان الذي يعيش تحت وطأة الإذلال والإهانة، والإنسان الذي يعيش في عزة وكرامة، فهل يستويان في العطاء والنفع؟ لاشك أن الإهانة والإعتداء العاطفي على الأقليات يؤثر سلبا على صحة نفسية الأجيال الناشئة، كثير من أبناء المهاجرين يعانون من مرض الفُصام، ومن أعظم وسائل تحصين شبابنا من هذه الأثار السلبية، تنشئتهم على التربية الإيمانية، وقيم التراحم والتسامح، فيقوى لديهم الوازع الديني، والترابط الإجتماعي، فيفوزون في حياتهم الدنيا والآخرة.